بقلم: محمد منسي قنديل
الزمن المصري أطول ازمنة البشرية، والأقل في درجة الحرية، فمنذ فجر التاريخ وقد تخلى المصريون عن حريتهم، اسلموها طوعا لسلسلة من الحكام الذين توالوا عليها كقدر أعمى، ارتدوا كل اشكال الأقنعة، ولعبوا عليهم كل الحيل غير المشروعة، ولم يتركوا تبريرا إلا وساقوه حتى يبقوا الشعب تحت نير العبودية، وتقبل المصريون ذلك أحيانا دون وعي، وبرغبة تقارب الوله احيانا، صدقوا كل أكاذيب حكامهم وتركوا لهم العنان ليتحولوا إلى طغاة، اعطوا بسذاجة الشرعية لكل من لا شرعية له، فالحرية التي كانت حقا طبيعيا لكل البشر اصبحت عملة نادرة بالنسبة لهم، وفي الواقع كانوا هم من فرط فيها، لم يحاولوا انتزاعها كما يجب أن يحدث أو التضحية من اجلها مثل غيرهم، لكنهم استسلموا للعبودية الطوعية فقط من اجل استقرار لا يدوم ورخاء لا يجئ.
نهر النيل كان هو أول أسباب الطغيان، لأنه كان نبع الحياة الأوحد في صحراء قاحلة، أزال المصريون من على ضفتيه الأشواك والنباتات البرية، وطهروا مياهه من التماسيح وافراس النهر ثم عبدوه، تقبلوا تقلباته في رضى، كان النهر إلها شرسا متقلب الأحوال، يطلب ضحاياه وقت الفيضان، وفي أوقات الجفاف أيضا، ولكن بقدر ما كان ملكا للجميع كان عدوا للجميع أيضا، كانت مياهه دائمة التغلغل في الشواطئ الرخوة، تقطعها وتعيد تقسيمها من جديد، في وقت جريانه كان الفلاح يستيقظ في الصباح ليجد أن النهر قد اقتطع شطرا من ارضه، ودفعها بتياراته لتلتصق بأرض جاره، تقسيم قدري للأرض، وفي كل الأحوال لا أحد يرضى بنصيبه، دب الخلاف مبكرا بين سكان الوادي، وتصاعدت حدته في أيام ندرة المياه، لذا فقد سعى فلاحو الوادي طائعين لمن يحكم وينظم أمور النهر فيما بينهم، ومن حكم النهر فقد حكم الجميع، ونشأت اول حكومة مركزية في التاريخ، على الفراعنة، الملوك الأوائل ، سدنة العرش، ورضي الجميع بالدخول في طاعتهم، في العبودية الطوعية لدولة الملك الاله، والعبودية الطوعية هو التعبير الذي اطلقه المفكر الفرنسي «دي لا بوسي» في القرن السابع عشر في مقالته التي يصف فيها كيف يتحكم الطغاة في شعوبهم، ورغم أنه يدين هؤلاء الطغاة إلا ان ادانته للشعوب كانت أقوى، فهي تستسلم أكثر مما ينبغي، وتفرط في حقوقها الأساسية دون وعي، وهذه هي أحدى السمات السلبية للمصريين الذي وصفهم الجبرتي ذات مرة أنه شعب صانع للحكام، فهم يحولونهم إلى آلهة لا تمس ولا تنتقد ولا يقدمون لها أقل من الخضوع المطلق.
هناك هاجس مرضي يستولى دائما على الذهن المصري هو الاستقرار، ومن اجله يتخلى عن اهم النوازع البشرية وهو التوق للحرية ويقدم الذرائع المختلفة لكل من يستبد به، ولا أحد يدرك أن العبودية ميراث جائر ينتقل من جيل الإباء للأبناء، فلو قبلنا الاذلال في حياتنا فهذا يعني أننا قد فرضناه فرضا على مصير ابناءنا، فالمصري كان دائما عرضة لأعمال السخرية المجانية، ومصادرة محاصيله وحيوانات، تسبى بناته ويساق ابناءه إلى حروب يكونون وقودا لها دون أن يدري عنها شيئا، وقد دفع المصري هذا الثمن الغالي دون ان يتلق ما يقابله، فلم ينعم بالاستقرار إلا قليلا، ولم يعش الرخاء إلا نادرا، كل هذا لأنه لم يناضل من اجل حريته كما ينبغي، فالناس يولدون أحرارا، ولكن هذا لا يدوم إذا لم يدافع كل فرد عن هذه الحرية بكل طاقته وإلا تحول إلى عبد ذليل.
لم ينعم المصريون بالحرية الحقيقية في تاريخ العبودية الطوعية الممتد إلا في مناسبتين نادرتين، وكلاهما كانت لأيام قليلة، المرة الأولى كانت خلال العصر الفرعوني عندما كانت الدول المركزية في اقصى قوتها يحكمها الفرعون من جهة وكهنة المعبد من جهة أخرى، ولكنها فوجئت بفرعون ثائر، متمرد، هو «اخناتون» الذي ثار على منظومة الدين التقليدية، ترك تماثيل الإله «امون» وبقية الآلهة القدامى، هجر المعابد الراسخة وآمن بإله جديد واحد، بالشمس واهبة الضياء والدفء إلى العالم، أضاف لمسة روحية إلى الديانة القديمة المادية بكل ما تمثله من تماثيل وقرابين، بضربة واحدة انقسمت الدولة وانفرط كل شيء من قبضتها، اعتبر الكهنة الفرعون مارقا واهدروا دمه ، واعتبر اخناتون الكهنة خارجين عن القانون وطالب بمصدرة املاكهم، وكانوا يملكون الكثير، ووجد الشعب نفسه فجأة حرا، فالقوى التي كانت تمارس عليه القمع تتصارع مع بعضها، تركوه يسير حياته كما يريد، لم يعد هناك جباه للضرائب، وهرب العبيد من بيوت اسيادهم، وخرج العصاة والابرياء من السجون ، وانتشرت أنواع من الحرية الجنسية لم تكن معروفة، او كانت تدور في الخفاء، ظهر كل ما في داخل النفوس من نبل وخسة، وارتكبت كل أفعال الشهامة والنذالة، استطاع المصريون أخيرا أن يعبروا عن انفسهم.
لحظة الحرية الثانية للمصريين لم تحدث إلا بعد آلاف السنين، خلال هذه الفترة تفنن حكام مصر في ارهابه وفرض سيطرتهم عليه، لبسوا اقنعة الآلهة الذهبية، ووضعوا اللحى المستعارة ورؤوس الحيوانات ودهنوا اجسادهم بالمواد المضيئة، لقد حرصوا آلا يشبهوا البشر العاديين بأي حال من الأحوال، سكنوا القلاع والقصور وحفروا المقابر الخفية، وبلغوا قمة تحكمهم حين أنشأوا قلعة الجبل حيث يقفون في أعلى اسوارها بينما تسعى الرعية تحت اقدامهم كالنمل، وبعد أن هبطوا من القلعة ظلوا على الدرجة نفسها من النأي والتعالي، ولكن أخيرا حاول بضع الشباب المصري التمرد على قدر العبودية الطوعية، خرجوا في الخامس والعشرين من يناير عام 2011 في مشهد تاريخي مهيب، تجمعوا في ميدان التحرير، يحتجون على ميراث طويل من القمع وفقدان الإرادة، ولكن مسيرتهم لم تكن سهلة، كان رجال الامن يترصدونهم بالرصاص، وكهنة النظام يشوهون صورتهم في أجهزة الاعلام، كان ثمن فادحا من الأرواح الشابة، لكنهم تحملوه وصمدوا في الميدان، اصبح الطاغية محاصرا في قصره لمدة ثمانية عشر يوما قبل أن يرغم على التنازل عن منصبه الذي استولى عليه لمدة ثلاثين عاما، مدة هائلة من الطاعة العمياء والاستخذاء المخجل، ولكن المصريون اصبحوا احرارا لمدة ثمانية عشر يوما دون دولة مركزية تمارس عليهم قمعها المعتاد.
لحظات نادرة من تاريخ مثقل، ولكننا تعلمنا منها درس الحرية، هذا الاستعباد الطوعي لا فائدة منه، نحن الذين نصنع الطغاة ونسلطهم على رقابنا، لاشيء يجبرنا على الخضوع لشخص مهما بلغ قدره، علينا أن نحافظ على ماهو إنساني بداخلنا، فطرة الله التي ولدنا بها، توق الحياة للشمس والهواء والبحر والقمر والليل وكلها أشياء مجانية لم يهبنا لنا أحد ولا يوجد من يملك القدرة على منعها، بدون الحرية تنحط مرتبة الانسان إلى مستوى البهائم، يكفينا هذا التاريخ الطويل من العبودية.