بقلم: علي عبيد
قبل أيام نشر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، صورة قديمة بالأبيض والأسود، تجمع سموه مع المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، ومجموعة من رجالات دبي. وغرد سموه معلقا عليها قائلا: «مع والدي في نيويورك خلال الستينيات.. في مبنى الإمبايرستيت أعلى ناطحة سحاب عالميا.. وبداية حلم تحول لواقع في دبي». وأضاف في تغريدة أخرى: «لدينا برج خليفة الأعلى عالميا، وأطلقت دبي القابضة وإعمار بالأمس برجا أعلى منه، ولن يزيد الزمن أحلامنا إلا ارتفاعا وشموخا».
هذه الصورة ذكّرتنا بصورة أخرى تم التقاطها في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، يظهر فيها المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، مع مجموعة من رواد الفضاء الأميركيين، زاروا دولة الإمارات ضمن جولة لهم قاموا بها في عدد من الدول، وكانت دولة الإمارات إحدى محطاتها، كما يظهر في الصورة عالم الفضاء العربي الدكتور فاروق الباز، الذي كان قد قابل الشيخ زايد، رحمه الله، قبلها بعامين، ولاحظ اهتمامه، طيب الله ثراه، برحلات الفضاء، فحرص على أن تشمل جولة رواد الفضاء الإميركيين دولة الإمارات. كان الشيخ زايد، رحمه الله، يظهر في الصورة وهو ينظر إلى مجسم لمركبة فضائية باهتمام، وكان يستمع إلى شرح الدكتور الباز بتركيز واضح. وقد علق الدكتور الباز على تلك الصورة، عندما قابلته في دولة الإمارات قبل عام ونصف تقريبا، فقال إن الشيخ زايد، رحمه الله، قدّم لبرنامج «ناسا» وأنشطتها التي تفيد الإنسانية دعما سخيا، وأفصح عن أنه وشعب الإمارات يسعون إلى الحصول على كل ما يساعدهم على النهوض بدولتهم وغيرها من دول العالم الشقيقة والصديقة، ومنها الاستفادة من علوم الفضاء.
بعد أقل من أربعة عقود على تلك الصورة كانت دولة الإمارات تعلن عن تأسيس وكالة فضاء إماراتية، وتحدد مدى زمنيا لمشروع إرسال مسبار إلى كوكب المريخ، في خطوة وصفها الدكتور الباز في المحاضرة التي ألقاها في ندوة الثقافة والعلوم خلال تلك الزيارة، بأنها متميزة، فيها شجاعة وإيمان بالعقل البشري، وقال إنها سوف تحفز شباب الإمارات على ارتياد مجال الفضاء، وتشجعهم على البحث العلمي، والتميز في المجالات العلمية والتكنولوجية.
تذكرت الصورة الثانية وأنا أرى الصورة الأولى، وتأكدت أن أحلام الكبار مثلهم كبيرة، فحلم الشيخ زايد، رحمه الله، الذي بدا في عينيه وقتها، تحقق على يد أبناء زايد، فدخلت دولة الإمارات نادي الفضاء عبر أول مسبار عربي وإسلامي للوصول إلى المريخ، وربطت تحقيق هذا الحلم باحتفالها باليوبيل الذهبي لقيامها. أما حلم صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الذي بدا هو الآخر واضحا في عينيه قبل نحو ستة عقود من الزمن، فقد تحقق عبر مدينة عصرية، شيّدت أعلى بناء وأطول برج في العالم، وغدت تعجّ بناطحات السحاب التي نافست مثيلاتها في المدن الكبرى، ولم تقف عند إنجازها الذي ينظر الجميع إليه بإعجاب، وإنما تخطط لبناء أبراج أعلى، لتنافس نفسها قبل أن ينافسها الآخرون ويلحقوا بها.
ما بين الحلم وتحقيقه مسافة تبدو للكثيرين بعيدة وقطعها مستحيل، وتبدو لغيرهم قريبة وقطعها ممكن، لذلك يختلف الناس في قدرتهم على تحقيق أحلامهم، رغم أنهم جميعا يحلمون ويحلمون ويحلمون، لكن القليل منهم من يستطيع أن يحول الحلم إلى حقيقة. وقد حبا الله دولتنا قادةً أحلامُهم كبيرة، وقد أثبتوا مقدرتهم على تحويل هذه الأحلام إلى واقع، لذلك فإن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حين وقف، في ستينيات القرن الماضي، على قمة مبنى «إمباير ستيت» الذي كان وقتها يعتبر أعلى بناء شيده البشر في العالم، ولمع في عينيه حلم أن يشيد بناء أعلى منه، فإنما كان يمارس حقه في الحلم، وهو حق مشروع لجميع البشر، رغم أن دبي وقتها كانت نقطة صغيرة على خارطة العالم، ربما لم يسمع بها أغلب سكان المعمورة، ومع هذا لم يكن حلمه بحجم البناء الذي كان يقف على قمته، وإنما كان أكبر وأعلى منه. وحين فكر في تحقيق هذا الحلم لم يراوده أدنى شك في مقدرته على تحويل الحلم إلى واقع، فكان له ما أراد، وأصبحت دبي واحدة من مدن العالم التي يشار إليها بالبنان، وغدت ملء السمع والبصر، بل هي الحلم الذي يسعى إلى مقاربته أغلب بلدان العالم، ويتمنى العيش على أرضها أغلب البشر.
من شابه آباءه فما ظلم، وقد شابه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم أبويه ومعلميه زايد وراشد، طيب الله ثراهما، فقد كانا، رحمهما الله، مثالا فريدا للأحلام الكبيرة والطموح البعيد، وكانا مثالا رائعا للقدرة على تجاوز الصعاب والتحديات لتحقيق هذه الأحلام، وكان لكل منهما مشاريعه التي تلاقت وتحققت، حتى خرجت إلى الوجود دولة متحدة كانت ذات يوم حلما صعب التحقق لأمة عانت من تجارب وحدوية فاشلة كثيرة، وغدت اليوم أنموذجا للدول الوحدوية الناجحة القليلة في العالم. لذلك لم يكن غريبا على سموه أن يحلم، ولم يكن غريبا أن يحول الحلم إلى واقع، ومن أراد أن يتأكد من هذا فلينظر إلى صورة هذه البلاد قبل نصف قرن، وإلى صورتها اليوم، وأن يقارن بين الصورتين ليعرف أن أحلام الكبار مثلهم كبيرة.