بقلم: د. خالد التوزاني
إذا جمعنا ما كتبه الأدباء من نصوص تؤرخ لمحنة ما طبيعية أو بفعل فاعل، يصح أن نتحدث عن “أدب المحن”، وهي نصوص أبدعها نخبة من الشعراء والأدباء أحداث مؤلمة، عاشوا لحظاتها بكل جوارحهم ومشاعرهم، يعبرون عن عمق الأسى والحزن، ويرثون فيها الضحايا، ويقدمون العزاء، وغير ذلك من مشاعر الألم والأمل، وخاصة تلك النصوص التي توثق تجربة إنسانية في التعامل مع ظاهرة طبيعية صعبة، جديرة بالكتابة عنها وفق جنس يصح أن نطلق عليه: أدب المحن.
في الساعة 23:11 من يوم الجمعة 8 شتنبر 2023 كان المغرب على موعد مع زلزال مدمر، لم تشهده البلاد منذ قرن بهذه القوة (7 درجات على مقياس ريختر) ، حيث خلق حالة من الرعب والهلع في نفوس المغاربة، لأنه ضرب عدة مدن، فقد كان محيطه أزيد من 500 كيلومتراً عن البؤرة المركزية في منطقة مراكش.
من النصوص التي كُتبت خلال زلزال المغرب، نستحضر نصّاً للشاعر والروائي المغربي ياسين عدنان، وقد نشره في حسابه على مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك:
“هذا الصباح، اهْتزَّت الأرضُ تحت أقدامنا من جديد. كنا نهيِّئ فطورنا على عجل حينما رُجّت بنا الأرض. كانت هزّةً بقوة 4,5 على مقياس ريختر. لم ندخل بيوتنا إلا بعدما طلع النهار. كانت الليلةَ الثانيةَ التي قضيناها في العراء. سيارتُنا مركونةٌ جنب البيت. رتّبْنا مجلسًا في حديقةٍ صغيرةٍ تُجاور البيت، فيما اتّخذْنَا السّيارةَ مرْقدًا.
حين داهمَنا الزلزالُ أوَّلَ مرةٍ، لم تكن مجرّدَ رجَّةٍ. بل إنَّ الأرض كادت تنسحِبُ من تحت أقدامنا. ومثلما ترْنَح الطائرة وهي تواجهُ مطبًّا هوائيا في الجو، رنَحَ البيتُ بنا. لكنَّ بيتنا ليس طائرًا ذا أجنحةٍ، فماذا يحدث بالضبط؟ ترنّح البيت بنا لمُدّة دقيقتين. ونحن في الطابق العلوي مذهولون لا نعرف كيف نُدَوْزِنُ خطواتنا، ولا كيف نقودها باتجاه سرير صَبيَّتِنا النائمة. وما كدنا نستفيق من الصّدمة ونتبيّن هولَ الحادث حتى انقطع التّيار الكهربائي. كانت أطول دقيقةٍ عشتُها في حياتي. وما إن وجدنا أنفسنا حافيَيْن في ظُلمة الشارع وبيان بين ذراعَيْ محاسن حتى تنفّسْنا الصُّعداء. كانت رجّةً عظيمة عرْبدَتْ فيها الأرض تحت أقدامنا: هزّةً بقوة 6,8. منذ تلك الهزّة حتى هذه اللحظة، ونحن عاجزون عن استعادة إحساسنا الاعتياديِّ بالأمان.
في لحظةِ سأَمٍ وخصامٍ مع العالم، كتبتُ في قصيدتي “زهرة عبَّاد اليأس”:
” أينكَ أيها الزلزالُ الصَّديقُ
أينكَ
لأُبرْهِن أنِّي جديرٌ حقًّا بهذا اليأس
ولندفنَ معًا
هذا الحديدَ الأسودَ
في الأعماق الحيّةِ لكبدِ الأرض؟
أينكَ أيُّها الزلزالُ
لآخُذَ بِيدِكَ؟
أيْنكِ يا قذيفةَ الرّحمةِ
لأزْرعكِ في أحشائي
وأنامْ؟ “
لم يكن لي حينها سابِقُ لقاءٍ مع الزلزال. كان بالنسبة لي مُجرّدَ كلمةٍ في مُعْجمٍ. استعارةً. وليس لقاءً حيًّا مع الكارثة.
اليومَ للكلمةِ جرْسٌ آخر في السَّمع والوجدان. فبعدما اهتزّت مراكش وأحوازُها، بعدما خَسَفَت الأرضُ بدواوير كاملة في مُحيط الحمراء، بعد حصيلةٍ مفجِعةٍ تتجاوزُ الألفي قتيل، بعدما أعلنَ البلد حدادًا وطنيا، أفكرُ في الشاعر المغربي الراحل أحمد بركات. أستحضرُ ديوانه الأول: “أبدًا لنْ أساعدَ الزلزال”.
أنا اليومَ مُنحازٌ لموقفكَ الشِّعري يا بركات. سأسْحبُ جُملتي المُتنطِّعَة: “أينكَ أيها الزلزالُ لآخذَ بيدك؟” لأستعيدَ معك ارتيابَ الشعراء. وسأردِّد وراءك يا صديقي:
” حَذِرٌ، ألوِّحُ مِنْ بعيد
لأعوامٍ بعيدةٍ
وأعرفُ ـ بالبداهة ـ أنني عمَّا قريب سأذهبُ مع الأشياء
التي تبحثُ عن أسمائها فوق سماءٍ أجمَل
ولن أساعد الزلزال!”
وهذه قصيدة أخرى بليغة أبدعها الدكتور حمزة بن علي الكتاني توثق لحدث الزلزال وتتضمن إشارات دينية وتاريخية واجتماعية في غاية الأهمية، يقول:
ما للمآذن مالتْ عن سمائينا وريحةُ الموت فاقتها الرياحينا
ألقت بها الأجبالُ أحجارا مُرَجْرِجةً تمحوا القرى بضجيجٍ ليس يُبقينا
حينًا تدمر أحياء مؤهِّلة أو تلقي في الوديان أشلاءً قضوا حينا
كالرعد تضربُ في الأجوا مُلجلِجة والبرقِ يخطف أبصارا وأرْضينا
أرخى عليها هادمُ اللذات بسطته ففرّق الشملَ ليلا من ليالينا
يا ساعة بسطتْ للرعب بًسْطَتها والخوفُ عمّ القرى والمُدْنَ تهوينا
فيها تجلى إلهُ العرش في جَللٍ باسم المهيمن والجبارِ يُغرينا
آهٍ على طلل قد طَلّ من جبل وصبية قُطّعوا من دون سكينا
آه على دمَع الآباء إذ فقدوا أكبادهم، وعليها التُّربَ يُلقينا
آه على غُصَصِ الأيامى ذاهلةً بعد الفراق، وأيتامٍ بقوا فينا
قد حال أحمرَ قانٍ ليلُ مراكش، كاح مِرار بيوتِ كرامٍ فيها يحكينا
فيه المآذن ساختْ وهْي عالية بعد الصلاة، تُدَوّي بين اهلينا
آه على حاضرة ابن التاشَفِين غدت أرباضُها مُدُوِيةً كما العطاشْ فينا
خطبُ ألم؟َ بأرض الحَوْز مُضْمَخَةٌ أعلامُه الحُمر تكوينا وتُبكينا
وكم بآمَزْمٍيزَ من هول ومِن أسف كذاك تِنْغِيرُ تحكيها وتحكينا
واهتزت السوس من كرب ومن قلق وغاضت الدور إذ دكت بماكينا
قد زلزلت درْن وانهدت شواهقها وأعلن الهول في الأرباض يصلينا
في أرض ابن تومرتٍ دك الجبال، فما أبقى المنون صغارا أو مصلينا
كأنه الصور بعد النفخ مبدية أعلامه الطامة الكبرى توافينا
فر البنون عن الآباء إذ تركوا الــ مخدرات تلاقي موتا وتكفينا
آه على الأم عن أبنائها ذهلت ليت الحوامل ما ألقت أجانينا
يوم تفزع فيه الكل وانتشروا تحت الظلام ولات الخوف ينجينا
تخالهم شجر الزيتون قد عصفت بها الرياح فألقت منها زيتونا
إرحم إلهي وعافِ من قضوا نحبا فرحمة الله تحمينا وتكفينا
واجبر قلوب اليتامى والأيامى ومن تجرع الفقد يا كهف اللواذينا
وارفع إلهي عن الإسلام نكبتهم أنت الرحيم وأنت الله تحمينا
وصل ربي على المختار سيدنا محمد من خلقته رحمة فينا
ولم يكن التعبير عن زلزال المغرب إبداعياً شأناً مغربياً خاصاً بالمغاربة فحسب، وإنما تأثر بهذا الزلزال أدباء عرب، ومنهم الشاعر الإماراتي الدكتور مانع سعيد العتيبة الذي أبدع قصيدة تقليدية حول زلزال المغرب، نشرها في صفحات التواصل الاجتماعي، أنستغرام، وتويتر، يقول فيها:
على المكروه لم يُحمد سواه بحمد الله تبتسم الشفاهُ
وهل كنا سوى خلق جميل لخالقنا الذي عدلٌ قضاهُ
فحين يشاء نأتي ثم نمضي متى ما شاء أن نمضي الإلهُ
فيا الله ليس لنا اعتراض وسامحني إذا ما قلت: آهُ
فإنّ الاهُ لا تعني احتجاجا ولستُ من الألى ضلوا وتاهوا
أحبّتنا وما أقسى فراقٍ لدى رب الخليقة مُنتهاهُ
وإن المغرب الغالي علينا وشعباً طيباً حُرّا بناهُ
مع الملك الهُمام يظلّ عندي عزيزاً في حمى قلبي هواهُ
أتى الزلزال يهدمُ ما بيننا ولم يهدم لمغربنا عُلاهُ
لأن الله لا يرضى بظلمٍ لشعبٍ طالب دوماً رضاهُ
وكتب الشاعر الموريتاني أدي ولد آدب قصيدة اختار لها عنوان: مع المغرب المفجوع، يقول فيها:
قلبي مع المغرب المفْجوع.. لا نُكِبَا ولا تَزَلْزَلَ ركْنٌ منْه.. لا اضْطَرَبَا
قلبي مع العاشقين الأرضَ.. ما بَرِحُوا مُسْتمْسِكينَ بها.. ابْنًا.. هنا.. وأبَا
تأبَّطوا الوطنَ المحْبوبَ تَسْكُنُهُمْ جَنَّاتُه.. إنْ زَهَا.. والنارُ.. إنْ جَدَبَا
فابْكي لهمْ، يا عُيونا طالما شرِبُوا منْها.. يَدًا.. لِفَمٍ.. كَمْ مُرُّها عَذُبا!
وأَوِّبِي -يا جِبَالَ الأطْلَسِي- معهمْ فطالما اسْتَمْرَأُوا منْكِ الذي صَعُبَا!
ويا طيورُ، وراءَ الهُدْهُدِ انْطَلِقِي لتُنْقِذِي مَنْ بَنَوْا غَيْمَ الهَوا.. قِبَبَا!
ويا ثُلُوجُ، لهمْ كونِي مَدافئَ.. في برْدِ العَرَاءِ.. فبيْتُ الطينِ قدْ ذهَبَا!
واسَّاقطي- يا نجومَ الليْل- فاكهةً للجائعينَ.. هنا الزيْتونُ.. صارَ هَبَا!
وبَلْسَمِي- يا الغُيُومُ البِيضُ- مَنْ جُرِحُوا ويا جِنَانُ، لِمَنْ مَاتوا ازْدَهِي طَرَبَا
يا ليت أبياتَ شعْري تبْتَنِي وطَنًا يتْلو “إذا زُلْزِلَتْ” “أحزابه” “اقتربا”!
يا أمَّنا الأرْضَ.. يا مَنْفًى ومَمْلَكَة لآدَمَ.. العَفْوَ.. إِنْ لمْ نُحْسِنِ الأدَبَا
ما نَحْنُ- لُطْفَكَ، يا ربي- سوى خَزَفٍ مهْما ابْتغى رُوحُه نحْوَ السَّما سَبَبَا!
مهْما تَمَرَّدَ فينا الطينُ.. إن لنا -وإنْ عَقَقْنَا- إلى هذا الثرى نسَبا
سبْحانَ من خلقَ الإنسانَ فِي كَبَدٍ نرْجو التَجَلِّيَّ حُبَّا.. نخْتَشِي الغَضَبا!
ومن الشعراء العرب كتب الشاعر السوري أحمد إبراهيم السيد قصيدة مؤثرة، مما ورد فيها:
ما مرَّ عامٌ على حمّالةِ النُّوَبِ إذ زلزلَ اللهُ مَلقى التُّركِ بالعربِ
و اليومَ تهتزُّ في مُرّاكشٍ بُقَعٌ و الكلُّ يجأرُ : يا ربّاهُ لطفَكَ بي
أرضُ الرِّباطِ ثغورِ الفاتحينَ لها نبضٌ بقلبٍ صَدوقِ الحُبِّ مُنتحِبِ
كنّا نموتُ اختياراً يومَ نَحملُها مشاعلَ العِزِّ نتلو الفتحَ بالعربي
و الأرضُ في نومِنا تشقى بكلِّ أذى و تستغيثُ بنا نزفاً منَ الرِّيَبِ
و اليومَ تخطفُنا أقدارُ بارئِنا ونحنُ نلهو ونحيا الموتَ في الطَّرَبِ
هذا من الأرضِ أم تدبيرُ منتقمٍ من الذين أناروا العدلَ في الحِقَبِ ؟
إنّي اعزيكِ يا أرضي بمانحةٍ وَسْمَ الشهادةِ في عرسٍ من الكُرَبِ
كذا أُعزّي أميراً تاشفينُ لهُ أبٌ و كلُّ أبيٍّ في الفَخارِ أبي
و طارقَ بنَ زيادٍ طارقاً قدَراٌ ارضَ الدُّجا ببريقِ السيفِ و الكُتُبِ
ارحمْ بنورِكَ يا ربّاهُ من رحلوا و اشفِ الذين أصيبوا و الأمانَ هَبِ
لِمن تشرّدَ إيواﺀً و مرحمةً هذا هوَ الظنُّ لا ملجا إلى الهَرَبِ
و لا تقولوا أصيبوا حسْبَ ما اقترفوا إنَّ المصايبَ للأمثالِ بعدَ نَبِي
وهكذا، يكشف أدب الزلازل عن عمق الوجع جراء مشاهد الدمار وانهيار المباني وصراخ الضحايا وأنين الجرحى وبكاء المشردين، مما لا يستطيع المرء تجاهله، مهما كان قلبه قاسياً، سوف يتأثر، فما بالك بالشعراء وهم أهل الإحساس المرهف، وهو ما يبرز عمق الألم في قصائد أدب الزلاز