بقلم / مسعود معلوف
بعد انسحاب الجيش الفرنسي من فيتنام وتقسيم هذه الدولة الى دولتين إحداهما شمالية وعاصمتها هانوي والأخرى جنوبية وعاصمتها سايغون بموجب اتفاقية جنيف الموقعة في شهر تموز/يوليو 1954، تحالفت فيتنام الشمالية مع الإتحاد السوفياتي بعد فرض النظام الشيوعي فيها، بينما تحالفت فيتنام الجنوبية مع الغرب وبصورة خاصة مع الولايات المتحدة التي أغدقت عليها الدعم بجميع أشكاله في سبيل احتواء التوسع الشيوعي آنذاك في تلك المنطقة.
في أواخر خمسينيات ومطلع ستينيات القرن الماضي، بدأت فيتنام الشمالية ترسل مقاتلين باتجاه الجنوب في سبيل تغيير النظام وإعادة توحيد فيتنام كدولة شيوعية متحالفة مع دول المعسكر الشرقي في أوج الحرب الباردة، فعززت الولايات المتحدة تأييدها لفيتنام الجنوبية وقام الرئيس آيزنهاور بإيفاد مئات الجنود مع مساعدات عسكرية واقتصادية لدعم سايغون في مواجهتها للمقاتلين الشيوعيين المعروفين بالفيات كونغ والقادمين من الشمال.
هذه الجهود الأميركية لم تثمر في حينه، وبعد أن تسلم جون كنيدي الرئاسة، زاد عديد القوات الأميركية في فيتنام الجنوبية الى أن بلغت، في أواخر عام 1962، حوالى 11،000 معظمهم من المستشارين العسكريين.
تسلم ليندن جونسون الرئاسة بعد مقتل كنيدي في شهر نوفمبر 1963، وبعد ذلك بقليل، ونتيجة لعدم تمكن فيتنام الجنوبية من التصدي بفاعلية لهجمات قوات الفيات كونغ عليها، زاد بشكل مطرد وبصورة تدريجية المساهمة العسكرية الأميركية الى أن بلغ عديد الجنود الأميركيين المتواجدين في تلك الدولة اكثر من نصف مليون جندي، حيث كانت الولايات المتحدة في ذلك الوقت تشن حربا مباشرة على فيتنام الشمالية دامت حتى العام 1973 عندما تم التوقيع في باريس بتاريخ 27 كانون الثاني/يناير من ذلك العام على اتفاقات السلام، بعد مفاوضات طويلة وشاقة بين الدولتين.
الحرب الأميركية على فيتنام دامت حوالى عقد من الزمن وقتل فيها 58،220 جندي أميركي إضافة الى 1،200 من المفقودين، هذا بالإضافة الى 150،000 من الجرحى وعشرات آلاف المصابين بإعاقات دائمة. من الجانب الفيتنامي, قتل في هذه الحرب حوالى 200,000 جندي من فيتنام الجنوبية وما يزيد عن المليون جندي من فيتنام الشمالية، مع ما رافق ذلك من دمار وخراب بسبب القصف بالطيران الأميركي على المدن والمرافئ والمطارات في فيتنام الشمالية، وإتلاف مساحات كبرى من الغابات عبر رش ملايين الغالونات من مواد سامة لإسقاط أوراق الشجر التي كان يختبئ تحتها جنود الفيات كونغ، وما أدى اليه كل ذلك من قتل وإعاقة أعداد ضخمة من المدنيين.
بعد انسحاب الجيش الأميركي إثر توقيع اتفاقات السلام في باريس بأشهر قليلة، قامت فيتنام الشمالية باجتياح جارتها الجنوبية بالكامل بما في ذلك العاصمة سايغون ووحدت البلاد التي أصبحت عاصمتها هانوي، وفرضت النظام الشيوعي في كافة الأراضي الفيتنامية، وقد شكل ذلك هزيمة سياسية كبرى للولايات المتحدة بعد هزيمتها العسكرية.
على أثر احتلال فيتنام الشمالية لجارتها الجنوبية وإنهائها كدولة مستقلة، قامت الولايات المتحدة بفرض حظر تام عليها عام 1975 باعتبار انها خرقت اتفاقات باريس للسلام الموقعة عام 1973، وقد دام هذا الحظر مدة عقدين من الزمن.
هذه الحرب الأميركية – الفيتنامية التي دامت مدة طويلة خلقت عداء قويا بين الشعبين لم يتوقع أحد أنه سينتهي في أي مستقبل منظور. ولكن إذا ما عدنا الى ما قاله رئيس وزراء بريطانيا ونستن تشرشل في أربعينيات القرن الماضي من أنه “لا يوجد عداء دائم ولا صداقة دائمة بل مصالح دائمة”، نرى عندئذ كيف أن المصالح الفيتنامية والمصالح الأميركية جعلت هاتين الدولتين تتقربان من بعضهما البعض تدريجا حتى وصلتا الى توقيع اتفاقية “شراكة استراتيجية شاملة”.
على صعيد فيتنام، في سنة 1979، قامت الصين باجتياح محدود للأراضي الفيتنامية من الناحية الشمالية حيث تتشارك الدولتان بحدود يبلغ طولها حوالى 1،300 كيلومترا. حالة من الحروب المتقطعة بين الصين وفيتنام استمرت لأكثر من عشر سنوات. فالجار العملاق الرابض شمالي فيتنام يشكل مصدر قلق لهذه الدولة وشعبها وعلى فيتنام أن تؤمن نوعا من التوازن الخارجي لحمايتها من اعتداءات هذا الجار المتكررة. كذلك من مصلحة فيتنام تجاوز مرحلة حربها مع الولايات المتحدة والعزلة المفروضة أميركيا عليها كي تتمكن من إعادة إعمار ما دمرته الحرب والتمكن من الإستفادة من قروض مؤسسات مالية دولية تسيطر عليها الولايات المتحدة بشكل واضح.
كذلك كان على فيتنام أن تسعى الى تأمين سلامتها ومستقبل شعبها بعد انحلال الإتحاد السوفياتي الذي كان يدعمها بشتى الوسائل وبعد الصعوبات الإقتصادية التي حلت بروسيا في ذلك الوقت.
أما على الصعيد الأميركي، وعلى خلفية التوسع الصيني في مناطق مختلفة من العالم لا سيما في أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا الوسطى، ونتيجة للتوسع العسكري الصيني في بحر الصين الجنوبي وخاصة في مضيق تايوان الذي هو مياه دولية بينما تعتبره الصين من ضمن مياهها الإقليمية مع ما يشكل ذلك من عرقلة للملاحة والتجارة الدولية التي يمر ثلثها عبر هذه المياه، وعلى خلفية تحالف الولايات المتحدة مع تايوان والتزامها بدعمها والدفاع عنها في حال حصول اعتداء صيني عليها إذ تعتبرها الصين جزءا لا يتجزأ من أراضيها، نرى بوضوح أن الولايات المتحدة لها مصلحة في التعاون مع الدول المحيطة بالصين ومن بينها فيتنام لاحتواء التوسع الصيني المتزايد.
الخطوات نحو تطبيع علاقات فيتنام مع الولايات المتحدة بدأت عبر خطوة هامة تمت عام 1991 حيث أعلنت فيتنام هدفها بأن تكون دولة صديقة مع جميع دول العالم التي تناضل من أجل السلام والإستقلال والتنمية. أي أن فيتنام جاهزة لتجاوز خلافاتها وحروبها الماضية وفتح صفحة جديدة من العلاقات الإيجابية مع العالم.
هذه الخطوة قابلها في الولايات المتحدة تحركات من قبل كل من عضوي مجلس الشيوخ جون ماكين من الحزب الجمهوري وجون كيري من الحزب الديمقراطي، وقد سبق لهما أن شاركا في حرب فيتنام، علما ان ماكين أسقطت طائرته أثناء الحرب وقضي خمس سنوات أسيرا في فيتنام الشمالية. لقد قام كل منهما بحملة لحث الرئيس بيل كلنتون على تخفيف العقوبات ورفع الحظر عن فيتنام وقد كان لحملتهما الأثر الإيجابي إذ رفع الرئيس كلنتون الحظر عن فيتنام عام 1994، وأقيمت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين عام 1995، ومنذ ذلك الوقت، زار كل رئيس أميركي فيتنام مرة على الأقل في خلال ولايته.
بعد إقامة العلاقات الثنائية، سعت الدولتان الى التقارب تدريجا عبر توقيع اتفاقات ثنائية في مجالات مختلفة منها في مجال التجارة والطيران وتعاون البحرية الأميركية مع البحرية الفيتنامية لمواجهة المضايقات التي كانت تسببها البحرية الصينية لبواخر الصيد الفيتنامية، وكذلك تقديم مساعدة أميركية لفيتنام في مجال تطوير الطاقة الهوائية وغير ذلك من الأمور.
وفي العام 2011 وقعت الدولتان مذكرة تفاهم للتعاون في مجال الدفاع كما صدرت بيانات مختلفة بعد ذلك حول رؤية مشتركة بين الولايات المتحدة وفيتنام في مواضيع دولية مختلفة.
وقد توجت هذه العلاقات بتوقيع اتفاقية “شراكة استراتيجية شاملة” أثناء زيارة قام بها الرئيس الأميركي جو بايدن منذ أيام قليلة بعد مشاركته في قمة مجموعة العشرين التي عقدت في الهند، علما أن هذا النوع من الإتفاقات يعتبر أهم الإتفاقات التي توقعها فيتنام مع دول صديقة، وهي قد وقعت مثل هذه الإتفاقات مع كل من روسيا والصين.
مع توصل الولايات المتحدة وفيتنام الى هذه الدرجة من التعاون والمشاركة والتحالف بعد الحرب الضارية والطويلة والأعداد الكبيرة من القتلى والجرحى لدى الدولتين، ومستوى الدمار الهائل الذي سببته الحرب الأميركية على فيتنام، ألا يحق لنا أن نأمل أن دولا أخرى واقعة في صراعات وأزمات وحروب مع بعضها البعض قد تصل يوما الى ما وصلت اليه العلاقات الأميركية – الفيتنامية؟ الأمر يتطلب طبعا بعض الوقت ولكنه غير مستحيل.