بقلم: د. خالد التوزاني
لا شك أن سؤال الكتابة التاريخية، أو تدوين الأحداث والوقائع، من ينقل التاريخ ويبحث فيه؟ سؤال دقيق وعميق، والإجابة عنه لن تكون مغلقة أو نهائية، فالتاريخ كما نعرفه وخاصة التاريخ الذي يدرس في المدارس والجامعات، ذلك التاريخ الرسمي لا يقول في العادة كل شيء، لأنه نوع من التأريخ الذي يدوّنه رجال السلطة؛ يدوّنون أخبار الحكام والدول والانتصارات والمعارك والمنجزات، ويذكرون أخبار الزعماء والحُكام وسيرهم وما قاموا به من أعمال، يريدون أن تبقى في الذاكرة، وهذا النوع من التاريخ متأثر في غالب الأحيان بالصراعات السياسية، ولذلك تشوبه الكثير من البياضات والفراغات، هناك مساحات هائلة من المسكوت عنه، أو الغائب الذي لا نعرف عنه شيئاً، أين تاريخ تلك الوقائع المُغيّبة أو المُبعَدة؟ ونفهم من ذلك أن هناك من يكتب التاريخ ولكن لا يكتب كل شيء، يختار الأحداث التي يريد توثيقها، ويهمل أو يهمش الأحداث التي لا يريد توثيقها، حسب الرؤية التي ينطلق منها أو يدافع عنها، وهذا يدفعنا لطرح التساؤل حول مدى الثقة بمن ينقل التاريخ أي المؤرخ، ما هي حجم المصداقية التي يمكن أن يتمتع بها المؤرخ، تلك المصداقية التي تأتي موازاة مع مساحة الحرية والاستقلالية التي يتمتع بها المؤرخ وهو يكتب التاريخ. فالملاحظ أن بعض المؤرخين لأنهم يعملون في جهاز الدولة، فإن توثيقهم للأحداث يتأثر بطبيعة النظام الحاكم من حيث درجة الانفتاح والحرية أو العكس، وهو ما يفسر صمت المؤرخ عن بعض الأحداث الكبرى، وتضخيم أحداث صغيرة، وقد يؤدي ذلك إلى نوع من التمويه والتشويش على القراء، وخاصة إذا علمنا أن قراء التاريخ المعاصر عادة ما يكونون في المستقبل وليس الآن، ولذلك عندما يكتب المؤرخ هذه الأحداث اليوم فهو يصنع المستقبل الذي يريده أو تريده الدولة والمجتمع، فالأجيال القادمة سوف تستلهم منه رؤيتها وتحكم على واقعها انطلاقاً منه، وهنا تكمن خطورة التأريخ لأنه يؤثر في المستقبل، ولا ندرك خطورته في الراهن.
إن التاريخ ليس فقط أحداث وأعلام وأخبار الأمم الغابرة، وإنما هو تراكم معرفي وعلمي وثقافي وحضاري، ويبقى التساؤل الذي يُعاد طرحه مراراً، وينبغي أن يظل مطروحاً، ومتجدداً ، لأنه سؤال مشروع وأساسي هو: هل ما تم نقله من أحداث الواقع العربي على مر العصور هي أحداث حقيقية؟
إن هذا التساؤل يدخل ضمن المنهج العلمي القائم على مبدأ الشك الفلسفي المؤدي إلى اليقين التام، بحيث ينبغي للباحث أو القارئ الحكيم أن لا يقبل كل شيء بشكل عفوي وتلقائي، بل المطلوب دائماً مواجهة العالَم والتاريخ بالشك الفلسفي كما تحدث عنه الفيلسوف ديكارت وغيره من فلاسفة عصر الأنوار في الغرب، من أجل تأسيس معرفة قائمة على أسس واقعية ومنطقية تعلي من شأن العقل، وقد كان لهذا المنهج أثر في تقدم الغرب وانتقاله من الخرافة إلى العقل، ومن التخلف إلى التقدم في كافة المجالات، لأن الإنسان كلما كان منطقياً وأكثر استعمالاً للعقل، كلما زادت قدرته على مواجهة الطبيعة والواقع، واستطاع ابتكار الحلول الممكنة لجعل الواقع طيعاً ومكونات الطبيعة في صالحه، فيبني رفاهيته واستقراره.
هل يتأثر الباحث بأجندات وموالاة؟
إن علاقات الباحث بالمحيط الاجتماعي والسياسي والثقافي قضية لا يمكن إنكارها، فالأجندات والموالاة والانتماءات، تحضر بشكل مباشر أو ضمني في أحكام الباحث وأحياناً قد تؤثر في نتائج بحوثه، وهذا موضوع يرتبط بالعلم والإيديولوجيا، ويرتبط كذلك بقضية الذاتية والموضوعية، هل العلم محايد؟ هل البحث العلمي يبحث عن الحقيقة دون أي تأثير في مسار هذا البحث؟ إن المتأمل في عمل أكبر المؤسسات البحثية العالمية، يجد أن البحث العلمي يحتاج إلى تمويل ودعم، وهذا التمويل تقدمه الحكومات أو بعض الجهات التي يكون غرضها الترويج لأفكار معينة أو إضفاء المشروعية على تيار ما، أو التأثير في مجتمع معين أو حتى مجتمعات أخرى، ولذلك تموّل البحوث التي تسير في اتجاه معين لتحقيق أهداف تلك الجهات، وهذا الأمر نراه في كل مكان في العالم، فحتى الدول المتقدمة التي تعتبر نفسها مهد العلم والديمقراطية والشفافية والنزاهة، نجدها تدعم وتزكي بحوث معينة وتهمل أو تهمش بحوث أخرى، لسبب واحد هو عدم انسجام تلك البحوث مع غايات هذه الدول والحكومات، ولذلك يجد الباحث نفسه محاصراً بقوانين العلم التي ينبغي أن تظل سامية وفوق كل السلط الأخرى، وبتوجيهات الجهات الداعمة أو المجتمعات التي ينبغي للباحث أن يحترم قوانينها وعاداتها واختياراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، إنها وضعية الحيرة والتردد التي يقع فيها الباحث بين الميل إلى جهة على حساب جهة أخرى، والمؤسف هو أن يؤدي البحث العلمي نفسه ضريبة هذا التداخل في المصالح؛ مصالح العلم والعقل ومصداقية الباحث، ومصالح الحكومات والمؤسسات الراعية للبحث العلمي، وإلا لن تموّل البحوث ولن يكون للباحث أي إمكانات لممارسة مهامه العلمية التي تبقى حبيسة المكتبات أو الرفوف ويبقى نشاطه بعيداً عن الأضواء وبعيداً عن دائرة التأثير والفعالية.
ولذلك يحتاج الباحث لأن يكون مثقفا واعيا وحكمياً، وليس فقط يملك القدرة على البحث والتدقيق، من أجل معرفة كيفية تجاوز عقبة تداخل المصالح، وحتى لا يتم استغلاله لأغراض غير إنسانية، فالعلم جاء رحمة للإنسانية، ولم يكن باباً للشقاء والبؤس.
هل يؤثر التاريخ على النص الأدبي: نعم يتأثر النص الأدبي بالتاريخ، وبرؤية الباحث، إن النص الأدبي نتاج حصاد العمر وثقافة الكاتب ومشاعره وخبراته، والتاريخ جزء منها، لا يمكن أن يتنزَّل النص من برج منعزل عن العالَم والواقع والتاريخ، النصوص الأدبية هي نفسها تمثل مرحلة تاريخية قائمة بذاتها، ولحظة زمنية تم تجميدها في شكل كلمات وأحداث وأفكار، فالأديب له موقف من الأحداث، ويصعب التعبير عن تلك الأحداث دون تأثر بها، فتكون ذات الباحث حاضرةً بشكل صريح أو ضمني، خاصة في نصوص الأدب المعبّر عن المشاعر والأحاسيس والعواطف، وعلى رأسها الشعر، فهو جنس أدبي يقوم على نوع من التفاعل بين الأديب والواقع، ويتدخل الخيال بما فيه من أفق واسع، واللغة بما فيها من استعارات لتأخذ الأحداث مساراً آخر مختلفاً يُعبّر عن موقف معين، وهنا نكون أمام تأريخ للوقائع برؤية إبداعية تختلف تماماً عن رؤية الباحث في التاريخ الذي يملك الوثائق ويصفها ويحللها لكشف النواميس الكونية وقوانين المجتمعات، أما الأديب فبضاعته الخيال الخلاق واللغة المجازية، ومن ثم فالتاريخ الصادر عن كل واحد منهما مختلف بالضرورة، ويحتاج القارئ إلى استحضار طبيعة عمل المؤرخ أو كاتب التاريخ، هل يكتب من زاوية إبداعية وخيالية أو تحليلية وصفية.