بقلم: د. حسين عبد البصير
لقد غلبت روح التدين على المصري القديم منذ بدايات وجود الإنسان المصري على أرض مصر الطيبة. وكانت الحيوانات بأنواعها المختلفة تشاركه بيئته الفسيحة المليئة بكل الكائنات. ولم تكن لديه القدرة للسيطرة عليها. وأدرك المصري القديم مع الوقت أن لهذه الحيوانات قدرة عظيمة أكبر من قدرته هو ذاته. ومن هنا، امتد التقديس والحب والتبجيل لهذه الحيوانات خوفًا منها نظرًا لما لها من قدرة وقوة أكبر من قدرته وقوته، فمال إلى تقديسها اتقاءً لبطشها وتهدئةً لها ودرءًا لشرها ورغبةً في الاحتماء بها وقوتها من الكائنات والظواهر الأخرى المحيطة به والتي تفوق قدرته المحدودة. ولا يمكننا أن ننسى إعجاب الإنسان المصري بقوة الحيوانات الخارقة التي كان يفتقد إليها. وامتازت تلك الحيوانات بقدرتها على إمداد المصري القديم بقدر كبير من الخيرات التي كانت تجلبها له مثل الألبان واللحوم التي كان يقتات عليها والجلود التي كانت تقيه من قسوة البرد في الشتاء، فنشأ بين المصري القديم وتلك الحيوانات نوع غير محدود من الألفة غير المعلنة، فأسبغ عليها بالغ القداسة والاهتمام والتبجيل؛ نظرًا لما تقدمه له من عطاء وفير وحب وتضحية.
ولا شك أن موضوع تقديس الحيوان في مصر القديمة من أكثر الأمور التي كانت وما تزال محل جدل ومثار عجب ودهشة لدى البعض قديمًا وحديثًا، وكان أبرزهم أبو التاريخ أو أبو الأكاذيب المورخ الإغريقي الأشهر هيرودوت. واعتقد بعض العلماء أن المصريين القدماء عبدوا الحيوانات وجعلوها آلهة معينة ذات رموز خاصة، ورفض بعضهم هذا الرأي بشدة.
وكان تقديس الحيوان معروفًا في مصر منذ أقدم العصور، واختفى مع الوقت لكن صار التقديس نوعًا من الاحترام وكتقليد متوارث منذ القدم إلى العصور التاريخية. غير أن السبب الأهم في احترام وتقديس الحيوان في مصر القديمة والدافع من وراء عبادته يرجع، أغلب الظن، إلى أن المصري القديم قدس الروح السامية الكامنة في الحيوان، وليس الحيوان ذاته، ولم يقدس كل أنواع الحيوان، كما يحدث في الهند من تقديس لجميع أنواع الأبقار، وإنما كان الاختيار يقع على نوع محدد من الحيوان. ولم يكن يتم تقديس كل الحيوانات من تماسيح وأبقار وكباش وصقور وغيرها. وإنما كان اختيار الحيوان المحدد يتم عن طريق مجموعة من العلماء في «بر عنخ» أو «بيت الحياة»، مكان العلم والعلماء الموجود في المعابد في مصر القديمة. ومتى تم توافر الشروط المطلوبة بدقة في ذلك الحيوان، فيتم الإعلان عن اختيار ذلك الحيوان المقدس، وتُقام الاحتفالات العظيمة في المعبد الخاص بالإله. وعندما يموت هذا الحيوان المقدس، يتم تحنيطه ودفنه في موكب عظيم.
وكان الحيوان وسيطًا بين الإنسان المصري القديم وبين الإله الذي كان يرمز إليه ذلك النوع من الحيوانات. وكان قدرة المعبود تتجلى في هذا الرمز الحيواني. وتحول الأمر إلى نوع من القداسة التي وقرت روح الحيوان، لا الحيوان ذاته. وكانت روح المعبود تتجلى في ذلك الحيوان أو هذا الطائر أو في أي من الزواحف. وفي هذا ما يوضح ترفع الإله وتجرده عن الحالة المادية واختفاءه عن الأنظار، وتنزه الإله وارتفاعه إلى مرتبة عليا من السمو والتنزه عن الماديات الملموسة إلى العالم السماوي اللامادي حيث السمو بالذات إلى ملكوت التجدر عن كل الصفات الأرضية. وجاء هذا الاحترام من تقديس روح الإله الموجود في الحيوان، وليس في روح الحيوان. وكانت الحيوانات المنزلية تنال قدرًا كبيرًا من عطف ورعاية المصري القديم في محيط الأسرة المصرية باعتبارها تمثل أرواحًا طيبة في محيط بيت الأسرة.
ومال البعض إلى اعتبارة عبادة الحيوان في مصر القديمة دخيلة على المجتمع المصري القديم، وإنما حدثت في عصور الاحتلال والاضطهاد الديني والسياسي، وفي العصور المتأخر من تاريخ مصر القديمة، خصوصًا في العصور اليونانية-الرومانية.
وتم تصوير الحيوانات المقدسة في هيئات مزجت مزجًا بارعًا بين الحيوان والإنسان، فنراها تظهر في هيئات نصف آدمية بجسد إنسان ورأس حيوان. وكان في هذا محاولة من المصريين القدماء إلى تقريب الصورة إلى الأذهان. وتم إطلاق اسم «أرواح المعبودات» على هذه المعبودات المقدسة. وأطلق المصريون القدماء أسماء إلهية جديدة على الحيوانات المختارة بعناية فائقة لتمثل المعبود، فنرى الصقر يُطلق عليه اسم «حورس» وليس «بيك» بمعنى «الصقر» اسمه في اللغة المصرية القديمة. وأُطلق على البقرة «حتحور»، وليس «إيحت»، وأطلق على التمساح لقب الرب «سوبك»، وليس «مسح»، معناه في مصر القديمة. وأصبح الكبش يأخذ اسم «آمون» أو «خنوم»، وليس «با». وتم تصوير العجل «أبيس»، روح المعبود بتاح، في شكل حيواني خالص. ولماذ اختار المصري القديم هذه الحيوانات؟ لقد أخذ المصري القديم من البقرة قدرتها على الحنو على وليدها، ومن الكبش قدرته على الخصوبة والإنجاب، ومن الصقر بعده وارتفاعه في السماء، مما جعل من هذه الحيوانات أرواحًا إلهية تكمن داخل معبوداتها.
وتم تقديس الحيوان كرهبة العجب والعظمة من الحيوان، ورهبة اتقاء شره، ورغبة في النفع منه والإفادة من خيره. ولعبت المصادفة دورها في اختيار الحيوان بسبب صفة ما تميزه عن بقية جنسه أو ربما لارتباطه بمسكن الحيوان الذي ربما كان فيه ما ينفع الناس. وكان في اختيار الحيوان تجدد لقوى الآلهة. وتعددت أشكال الإله. وكان من بينها تمثيل المعبود في هيئة حيوانية خالصة أو حيوانية آدمية.
وهناك أنواع عديدة من الحيوانات التي قدسها المصريون القدماء لأسباب عدة. ونذكر هنا بعضها منها على سبيل المثال، لا الحصر، مثل البقرة التي ارتبطت بالإلهة حتحور، وكانت تُصور على شكل إلهة بجسم سيدة ورأس بقرة. وكانت رمزًا للجمال والحب والسعادة. وانتشرت عبادة وتقديس البقرة فى مصر لما تمتاز به من الحنان والأمومة ورعايتها لرضيعها وإضرارها الألبان. وكان التمساح رمزًا للرب سوبك، الإله التمساح، الذي انتشرت عبادته في أرجاء عديدة من مصر، خصوصًا في منطقة الفيوم. وكان الصقر، في أغلب الحالات يمثل الإله حورس ابن الرب أوزيريس والرب إيزيس. وكان يتم تصويره كرجل برأس صقر. وارتبط هذا الإله بالملكية المصرية المقدسة. وكان يُطلق على بعض أشكاله اسم «حورس الذهبي». وكان هذا الشكل من ضمن الألقاب الخمسة التي كان يحملها الملوك الفراعنة. وكان أبو منجل أو أيبس أو أبو قردان واحدًا من الحيوانات المقدسة التي تصور الرب تحوت إله الكتابة والحكمة، والذي اخترع جميع العلوم التي عرفها الإنسان. وكان يمثل كرجل برأس «أبو منجل». وكانت القطة تعتبر حيوانًا مقدسًا خاصًا بالإلهة القطة باستت التي كان مركز عبادتها في منطقة تل بسطة في الزقازيق في الشرقية. وكانت القطة من الحيوانات الأليفة التي كانت تُربى في المنزل المصري القديم. وكانت كذلك من الربات الحاميات للمنزل بما فيه من أطفال ونساء. وكان القرد أو البابون من الحيوانات المقدسة؛ لأنه كان يحيي الشمس عند شروقها تحية للإله رع إله الشمس. وهذ المشهد يظهر على مسلة الملك رمسيس الثاني في معبد الأقصر. وكانت القرود مصدرًا للمرح واللهو في مصر القديمة. وكانت أيضًا رمزًا للرب تحوت إله الكتابة والحكمة. وكانت تُصور في تماثيل كبيرة الحجم كما هو موجود في الأشمونين في المنيا، أو كما اُكتشف حديثًا في معبد أمنحتب الثالث في الأقصر. وكانت حية الكوبرا أو الصل الملكي رمزًا مهمًا من رموز وشارات الملكية المصرية المقدسة. وكانت رمزًا للربة واجيت سيدة الدلتا المصرية. وكانت اللبؤة تمثل بعض الإلهات مثل الإلهة سخمت، ابنة رع. وكانت تُمثل كامرأة برأس لبؤة. وعلى الرغم من أنها كانت تسبب انتشار الأوبئة والأمراض، فكانت أيضًا سبيلاً للشفاء وأداة كان يستخدمها الأطباء لشفاء مرضاهم، وأرسل تمثالها الملك أمنحتب الثالث لشفاء أحد حكام بلاد الشرق الأدنى القديم. وكانت سخمت تتميز بالقوة والشراسة والقدرة الفاتكة. وتم تقديسها اتقاءً لشرها. وكان الجعران رمز الرب خِبري، شمس الصباح المشرقة، أول مظاهر الإله رع. وكان الثور رمزًا مقدسًا لعدد كبير من المعبودات باعتباره رمزًا للخصوبة والقوة مثل آمون وخنوم ومنفيس ومونتو. ولعل أشهر الثيران الإله أبيس إله الخصوبة. وكان الملك نفسه يُصور في هيئة الثور أو يُوصف بالثور القوي «كا نخت». وكان الملك يصارع الثور فى عيد «سد» أو عيد التتويج للجلوس على العرش حتى يثبت للشعب المصري أنه قوي وقادر على إدارة البلاد بقوة وحزم. وكان ابن آوى رمز أنوبيس. وكان يتم تصويره على شكل إنسان برأس ابن آوى. وكان مسؤولاً عن الحفاظ على جثث الموتى. وكان يتابع شأن الميزان في الفصل 125 الخاص بمحاكمة الموتى في كتاب الموتى الفرعوني. وكان يساعد المومياء عند إجراء طقسة فتح الفم. وكان يطلق المصريون القدماء عليه «الحارس، وسيد الأرض المقدسة، والذي فى خيمة التحنيط، والذي يعتلي جبله». وكان الكاهن المحنط يرتدى قناع هذا الإله أثناء عملية التحنيط. وكان حيوان فرس النهر الذكر شريرًا لأنه كان يلتهم المحاصيل الزراعية ويفسد المزروعات ويدمر الأرض الزراعية، بينما كانت أنثى فرس النهر، الإلهة تاورت، ذات الجسد الأنثوي ورأس فرس نهر، ربة حامية للأمومة والطفولة. وكانت أنثى طائر العقاب نِخبت سيدة مصر العليا، وكانت ربة حامية للفرعون، وكانت تظهر تنشر جناحيها حماية للملك. وكانت تمثل على التاج الملكي على جبهة الفرعون. وكانت الربة حقت أو حقات الضفدعة رمزًا للحياة والخصوبة والتجدد والميلاد والبعث. ومثلت هذه الربة على هيئة امرأة برأس ضفدعة. وكانت لها القدرة على تيسير اللحظات الأخيرة من الولادة. وكان العقرب رمز الربة الحامية سلكت أو سرقت المصورة كربة حامية على مقاصير الفرعون الذهبي الملك توت عنخ آمون.
وفي النهاية، أقول إن المصريين القدماء لم يقدسوا أو يعبدوا الحيوان لذاته، ولكنهم قد وجد في الحيوان قوة إلهية علوية تمثلت في روح الرب الذي كان يرمز له. وكان في هذا تكفير عظيم من المصريين القدماء. وعبروا عن فكرهم الراقي من خلال عدد كبير من الأفكار الفلسفية بشكل يقرب أفكارهم الراقية إلى أذهان البسطاء، غير أن الإغريق عندما زاروا مصر، لم يكن يفطنوا إلى فلسفة العقيدة والتعبد لدى المصري القديم. وأشاعوا أن المصري القديم قد عبد الحيوان الذي لم يكن له وجود في معتقداتهم. ومع الوقت، زالت الغشاوة وعرف العالم سحر ولغز تقديس الحيوان في مصر القديمة التي علمت العالم كله.