بقلم: أ.د. ناهدة العاصي
وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام، تحتل كندا المرتبة الرابعة عشر في الإنفاق العسكري في العالم، والذي يبلغ حوالي ٢٥ مليار دولار سنويّا أي بنسبة ١،٢ ٪ من الدخل القومي العامّ. والخطورة هنا برأيي ليست مرتبطة بهذا الرقم بقدر ما هي مرتبطة بواقع أن الدّولة لا تجد هذه النسبة عالية، فقد وعد الليبراليون برفع المبلغ إلى ٣٢ مليار دولار كما وعدوا برفع نسبة الإنفاق العسكري إلى ١،٤ ٪ أي بزيادة نحو ٦٠ مليار دولار بحلول عام ٢٠٢٦. وهنا أتساءل أيّهما أهم؟ الإنفاق العسكري أم الإنفاق على قطاع الصحّة؟ ولماذا يرتبط الإنفاق على الرعاية الصحيّة بالنموّ الإقتصادي؟ وإذا كان لا بدّ من ذلك، لِمَ لا تُستعمل نسبة أرباح الماريجوانا في تعزيز القطاع الصحّي؟
قد تكون الرعاية الصحّية هاجس الكنديين الأساسي. فنحن نشكوا ونشعر بالغضب من أوقات الإنتظار في العيادات، نشعر بالقلق إزاء فكرة العيادات الخاصة ونقوم بحملات ضدّ الخصخصة.السبب الرئيسي لهذا القلق هو ضبابيّة الصورة وتغييب المواطن عن بعض الحقائق. فمثلاً، حسب إحصاءات شهر آب/ أغسطس ٢٠١٧، يقدّر المعهد الكندي للمعلومات الصحية (CIHI) أن كندا أنفقت حوالي ٢٢٨ مليار دولار على الرعاية الصحيّة عام ٢٠١٦ أي ١١,١ ٪ من إجمالي الناتج القومي وهو ما يعادل ٦٢٩٩ دولار لكل مقيم كندي. هل هذا رقم واقعي؟ بالطبع لا! والبراهين كثيرة.
أولا، أن أبواب الإنفاق الأساسية التي تعادل ٦٠٪ من ميزان مدفوعات الرعاية الصحيّة السنوي هي المستشفيات، والأدوية والأطبّاء. أما ال ٤٠٪ الباقية فهي تستخدم لشراء سلع وخدمات الرعاية الصحية ولتوفير رأسمال الإستثمار ولإدارة خطط التأمين العامة والخاصة وتمويل الأبحاث. ولا ندري أين تقع تكاليف تحديث المستشفيات وسيارات الإسعاف وصناعة الأدوية … إذاً فعمليّة قسمة قيمة إجمالي الإنفاق على التعداد السكاني هي خدعة للمواطن فنصيبه من الإنفاق أقلّ بكثير مما يُقال.
ثانياً، وفقاً لموجز اتحاد الوقاية من الأمراض المزمنة في كندا عام ٢٠١٨ يتبيّن أن التكلفة المباشرة للأمراض المزمنة هي ١٩٠ مليار دولار أي ٥٨٪ من الإنفاق السنوي على الرعاية الصحية، أما تكلفة الرعاية الصحية المباشرة فهي ٦٨ مليار دولار والجزء الأكبر منها ثُصرف على كبار السنّ، وتكلفة الأمراض المرتبطة بالنظام الغذائي المتبع في كندا والذي يؤدي إلى البدانة فهي ٢٦ مليار دولار . مما لا شك فيه هو أن الرعاية الصحية التامة هي من حق كل مواطن. لكن في ظل هذه النِّسب، أين هو حقّ المواطن العادي؟ وكم يكلّف الدولة حقيقة؟ هكذا يستمرّ التعتيم في ظلّ قراءة الأرقام خارج سياقها الحقيقي.
ـ ثالثاً، وفقاً لمعهد فريزر، الأسرة الكندية المؤلفة من شخصين بالغين وولدين والتي تكسب حوالي ١٢٧٠٠٠ دولار سنويا تدفع حوالي ١٢٠٠٠ دولار للحصول على الرعاية الصحية العامة. أليس الرقم كبيراً؟ هو في الحقيقة أكبرإن أضفنا الأرقام المدفوعة على خطط التأمين الخاصة التي تشير إليها تقارير CIHI. في هذا السّياق، إن كان «متوسّط» ما يدفع المواطن الكندي من ماله الخاص مقابل الرعاية الصحيّة هو ٥٧٨٩ دولار، حسب باخوس باروا، فكلمة «متوسط»، لن تدلّنا على مَنّ يدفع أكثر مِن مَنّ؟ ومَنّ يدفع لِمَنّ؟ وأن كان مردود هذه القيمة جيّد؟
الخلاصة المؤكدة حسب Heuser هي أن الدولة الكندية تقاوم إصلاح الرعاية الصحية على الرغم من وجود أدلّة تشير إلى تلك الحاجة الملحّة. وهذا الكلام صحيح ليس فقط في مجال الصحة العامة بل ينسحب على مجال التعليم العام والخدمات وأي شيء آخر تموّله الحكومة. العين بصيرة واليد قصيرة والسؤال يبقى:
ـ هل يعلم كل الكنديين أن الرعاية الصحيّة العامّة ليست رعاية صحية مجّانية في كندا؟
ـ لماذا لا ينال الفرد الرعاية التامة مقابل الضرائب المرتفعة التي يدفعها بالتمام والكمال كما تفرضها الدولة؟
ـ لماذا يكون نصيب الفرد من الإنفاق الصحي يعادل ٥٦٪ من نصيب الفرد في الولايات المتحدة إذا كانت كندا في مصافّ مجموعة الدول الأغنى في العالم والأكثر تقدّماً في إقتصادها؟
ـ لماذا يدفع كلّ مالك شقة أو منزل مبلغاً سنويّاً يُسمّى «ضرائب مدارس» حتّى وإن كان ذلك الشخص ليس متزوّجا أو ليس لديه أولاد وبالتالي لا يستفيد من امتيازات التّعليم، إن صحّت التسمية؟
ـ لماذا يا ترى تأخذ صفقات السلاح والإنفاق العسكري هذه الأهمّية لو لم يكن هناك مستفيدون في الدولة من نسبة أرباح الصّفقات؟
ـ ألا يدفع نظام كندا الضريبي المتقدم الذي يُفرض على الأشخاص الذين يبذلون المزيد أن يدفعوا أكثر من غيرهم مقابل الخدمات التي يتمتّع بها الجميع إلى هجرة الطاقات وإلى تردد الكثير من ذوي الخبرات من الإستقرار في كندا بعد إنهاء معاملات الهجرة؟
وتبقى الأسئلة بلا أجوبة ورهناً لإرادة الدولة في أحداث التغيير الإيجابي من عدمه. ونبقى نحن لها بالمرصاد.