بقلم / مسعود معلوف
سفير سابق
عندما بدأ الإجتياح الروسي لأوكرانيا في الرابع والعشرين من شهر شباط/فبراير المنصرم، اعتقد الجميع، وفي طليعتهم الولايات المتحدة الأميركية، أن العملية ستنتهي في غضون أيام، وأن الجيش الروسي سيحتل أوكرانيا بسهولة نظرا للفارق الكبير في القوة العسكرية بين البلدين، لدرجة أن الرئيس الأميركي بايدن عرض على الرئيس الأوكراني زيلينسكي مساعدته على الخروج من البلاد، كما أن دول حلف شمال الأطلسي بدأت بالتفكير في تشكيل حكومة أوكرانية في المنفى.
ولكن المقاومة الأوكرانية القوية عرقلت عملية الإجتياح، وجعلت الهجوم الروسي يتعثر بشكل واضح ما اضطر الرئيس بوتين الى تعديل استراتيجيته والتوجه جنوبا وشرقا نحو مقاطعة الدونباس حيث يوجد نسبة مرتفعة من السكان من أصول روسية، وهم يؤيدون روسيا ويسعون الى الإنفصال عن أوكرانيا، وبالرغم من ذلك لم يحقق الرئيس بوتين أهدافه من الإجتياح بالرغم من مرور عشرة أسابيع على ما أسماه “عملية عسكرية خاصة”، وما زالت قواته تلاقي مقاومة أوكرانية شرسة من الجيش والمواطنين.
يرى بعض المعلقين السياسيين أن الحديث عن تعثر الإجتياح هو مجرد دعاية أميركية، ولكن في الواقع هنالك تعثر فعلي على الأرض في تقدم القوات الروسية التي تتكبد خسائر كبيرة في العديد والعتاد، خلافا لما حصل عند اجتياح روسيا لشبه جزيرة القرم، أو عند الهجوم العسكري الروسي على جورجيا او على دولة الشيشان.
لقد رافقت هذه التطورات العسكرية الروسية تطورات في السياسة الأميركية تجاه أوكرانيا. في البداية، وعندما كانت الولايات المتحدة تعتقد أن الجيش الروسي سيحتل أوكرانيا بسهولة ويستبدل الرئيس والحكومة الحالية بسلطة موالية لروسيا تعيد أوكرانيا الى بيت الطاعة الروسي، فرضت الدول الغربيةبقيادة الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية ومالية قاسية على روسيا اعتقادا منها بأن ذلك سينهك الدولة المعتدية، ويؤدي الى صعوبات اقتصادية داخل روسيا من شأنها أن تخلق توترات وتحول دون تمكين روسيا من الإستمرار في تمويل الحرب.
كذلك سعت الولايات المتحدة الى عزل روسيا عن العالم قدر المستطاع، بدءا بالأمم المتحدة حيث تقدمت بمشروع قرار يندد بالإجتياح الروسي لم يعارضه إلا روسيا باستعمالها حق النقض (الفيتو) وأتبعت ذلك بإصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة قضى بطرد روسيا من لجنة حقوق الإنسان، ولم يصوت الى جانب روسيا سوى 23 دولة بينما وافقت 93 دولة على القرار الاميركي وامتنعت 58 دولة عن التصويت.
وعندما ازدادت المقاومة الأوكرانية قوة في مواجهة الإجتياح الروسي، عمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها الى تزويد أوكرانيا بالمزيد من الأسلحة والمساعدات الإقتصادية والمالية والإنسانية لتمكينها من تأخير الإنتصار الروسي الذي كان يعتقد الجميع انه سيحصل عاجلا أم آجلا. وقد استمرت وتيرة هذه المساعدات بالتصاعدكلما ظهر المزيد من التعثر الروسي في تحقيق اي انتصار ملموس على الأرض، كما استمرت وتيرة العقوبات الغربية على روسيا بالتصاعد.
بعد ذلك، وعلى خلفية تغيير روسيا لاستراتيجيتها العسكرية وانسحابها من جوار العاصمة كييف ومناطق أخرى من البلاد نتيجة لعدم تمكنها من تحقيق انتصارات واضحة على الأرض باستثناء قصف بعض الثكنات العسكرية وتدمير المدن وقتل المدنيين، زادت الولايات المتحدة بشكل كبير نسبة دعمها العسكري والإقتصادي والإنساني لأوكرانيا، آملة بذلك إطالة الحرب وخلق المزيد من الصعوبات لروسيالإنهاكها اقتصاديا وعسكريا قبل انتصارها المرتقب على أوكرانيا.
وقد ترافق الدعم العسكري الأميركي القوي لأوكرانيا بدعم سياسي واضح تجسد بزيارة مشتركة لوزير الخارجية أنتوني بلينكن ووزير الدفاع لويد أوستن الى العاصمة كييف حيث اجتمعا بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأكدا دعم الولايات المتحدة غير المحدود لأوكرانيا. كذلك زار كييف رؤساء وزارات من بريطانيا وألمانيا والنمسا ومسؤولون كبار من دول حلف شمال الأطلسي والإتحاد الأوروبي دعما للمقاومة الأوكرانية في وجه الإجتياح الروسي.
ومع اقتراب ذكرى التاسع من أيار حيث تحتفل روسيا سنويا بانتصارها على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، سعت الولايات المتحدة الى تقوية إماكانات أوكرانيا الدفاعية لحرمان روسيا من تحقيق انتصارها قبل ذلك التاريخ، كما أنها ضخت المزيد من الأسلحة المضادة للطائرات والمدرعات التي ساعدت أوكرانيا على الحؤول دون تمكين روسيا من تحقيق أي هدف من اهداف اجتياحهاتستطيع الإحتفال به في التاسع من أيار.
الملفت في تطورات المواقف الأميركية من هذه الحرب هو أن الحديث عن حتمية انتصار روسياقد تلاشى الآن، وبدأت الأخبار تنتشر في الغرب عن احتمال حصول انتصار أوكراني في هذه الحرب، ومن هذا المنطلق، أعادت الولايات المتحدة إحياء قانون كان اتخذه الكونغرس عام 1941 وانتهى مفعوله عام 1945، وهو كانيقضي بتجاوز العقبات الإدارية لتقديم المساعدات العسكرية والمالية للدول الأوروبية وللإتحاد السوفياتي لاحقا في الحرب ضد ألمانيا. هذا القانون المعروف بقانون “الإعارة والتأجير” تم التصويت على إحيائه في الكونغرس الأميركي منذ أيام بالإجماع في مجلس الشيوخ وبتأييد 410 أعضاء ومعارضة 10 فقط في مجلس النواب.
وفي هذا الإطار، قررت إدارة الرئيس جو بايدن تخصيص مبلغ 33 مليار دولار كمساعدة إضافية لأوكرانيا، ومعظم هذا المبلغ للدعم العسكري عبر تقديم أسلحة دفاعية بكميات أكبر وبنوعية أفضل لمساعدة أوكرانيا على تحقيق الإنتصار الذي بدأ الحديث عنه يزداد في الأوساط الأميركية والغربية عامة.
لا بد من التوضيح هنا أن الرئيس بوتين لا يستطيع القبول بالخسارة العسكرية في أوكرانيا وسحب جيوشه منها دون تحقيق حد أدنى من الأهداف التي وضعها للإجتياح. صحيح أن زيلينسكي أشار منذ فترة الى عدم المضي في طلب الإنضمام الى حلف شمال الأطلسي، ولكن ذلك غير كاف لإيقاف الهجوم الروسي على أوكرانيا. بوتين يريد استعادة نهائية لشبه جزيرة القرم التي هي أصلا أرض روسية، كما يريد سلخ منطقة الدونباس عن أوكرانيا ووضعها تحت النفوذ الروسي بالكامل.
من غير المتوقع أن تنتهي الحرب قريبا إلا في حال حصول تغيير في الحكم الروسي، إما عن طريق ثورة شعبية تطيح بالرئيس بوتين، أو أن ينقلب عليه بعض معاونيه نتيجة للعقوبات القاسية المفروضة عليهم، ولكن ذلك غير محتمل في الوقت الحاضر. وفي حال شعور بوتين بقرب خسارته الحرب وانتصار الجيش الأوكراني على الجيش الروسي مثلما بدأ يتوقع الغرب، فإن التلميح الذي سمعناه من بوتين بنفسه ومن وزير خارجيته لافروف باستعمال السلاح النووي يصبح أمرا محتملا، ربما ضد أوكرانيا فقط لإخضاعها نهائيا والقضاء على أي احتمال للمقاومة في المستقبل.
في الخلاصة يمكن القول أنه، خلافا لما كان يعتقده الجميع عند بداية الإجتياح الروسي، الوضع الآن غامض جدا ومن الصعب التكهن بما يمكن أن تنتهي اليه هذه الحرب.