ترجمة: إدوار ثابت
المجاملة والنفاق أمران في تشابهما أختلاف وفي أختلافهما شبه ، قد يبدو ذلك لغزاً فكيف أن شيئين يتشابهان ويختلفان أو يختلط ذلك فيما بينهما ؟! ولكن من يدقق ويزيل اللغز سيدرك من قولنا أنهما يتشابهان في شكليهما ويختلفان في مضمونهما وعلى الرغم من أن هذا المضمون فيه أختلاف بينهما ففيه أساس يحوي الأمرين وهو المدح فالمجاملة مدح متواضع غالباً ما يكون في محله أما النفاق أو التملك فهما مدح زائد غالباً ما يكون في غير محله فالنفاق هو ابداء رأي غير حقيقته والمنافق هو منيعلم غير ما يخفي أو من يضمر الكره ويبدى الود أما التملق أو الملق فهو التودد بالحديث المعسول المبالغ فيه أما أطرف الأمرين فهي تختلف ولا تتشابه ففي المجاملة يمدح المادح في هدوء وتحفظ ويتلقى الممدوح هذا المدح في تواضع وخجل ولذلك كان يقول من يُمتدح في أيام سابقة تلك الجملة التي أندثرت الأن بين الألفاظ المستحدثة : أخجلتم تواضعنا أما في النفاق يمدح المادح في تصنع وحذق ويسمع الممدوح مدحه في غرور وكبرياء وفي المجاملة يسعى الأول إلى مدحه لرؤيته أن الثاني يستحقه ويشعر هذا بالأمتنان وقد يشعر فيه بما لا يستحقه وفي النفاق يهدف الأول إليه رغبة منه في الحصول على شيء ما أو في تأكيد قدره عند من يمتدحه ولكن الخلط في ذلك هو من يرى أن الثاني ليس جديراً بهذا المدح ولكنه يسعى إليه مدفوعاً مضطراً ويرى فيه الممدوح جدارته به فهو يتواءم مع أفتخاره بنفسه وبتعاظمه وما يزيد الخلط أو أن يشعر في باطنه بما يمحو إحساساً عنده بالنقص أو بالخطأ يضمره هو ودون أن يبدو له ولذلك فهو دائماً يجازي مادحه ويقدره عن غيره فيكون من يمتدحه هكذا عالة عليه. وهذه الحكاية تبرز هذا النفاق وذلك التملق وهي واحدة من أشهر الحكايات المعروفة للشاعر لافونتين يعلمها أساتذة المدارس للتلاميذ ويتداولها الناس ولا سيما من يدرسون اللغة الفرنسية على الرغم من أن البعض يعارض ذلك حتى لا يؤدي إلى نتيجة عكسية فبدلاً من أن تبعث على السخرية والتندر تحمل على النزوع إلى النفاق والخداع من البعض عند الرغبة في شيء ماء يريدونه .
تحكي الحكاية أن ثعلباً كان يتجول وينظر حوله يبحث عن شيء يلتهمه وفي سيره يتطلع فيرى غراباً يعتلي شجرة من الأشجار وقد أمسك بمنقاره قطعة من الجبن تغريه رائحتها فإذا هو يعمل عقله ويُثار مكره يبحث بهما عن حيلة يقتنص يها تلك الفريسة فيرنو إلى الغراب يتحدث إليه بلهجة معسولة يمتدحه فيها ويثني على صوته حتى يغني فلم تتعثر النشوة فيه بهذا المدح بل أزدادت وأزداد معها فخراً فإذا هو يفتح منقاره ليعلن صوته فتقع قطعة الجبن من فمه فيلتقطها الثعلب ويلقي عليه معها درساً يؤنبه فيه . وها نحن نترجم هذه الحكاية من نصها الفرنسي الذي كتبه لافونتين بالشعر وهو يقول فيها :
الأستاذ غراب وقد أعتلى شجرة عالية
يمسك بمنقاره قطعة من الجبن
فلرائحتها المغرية يلقي عليه الأستاذ الثعلب
بلهجة عذبة هذا الحديث :
« أي سيدي الثعلب عمت صباحاً (أيْ حرف نداء)
كم أنت جميل وكم تبدو لي رائعاً
فبلا لغو لو أن شقشقة صوتك الصداح
تماثل ريشك الزاهي الفواح
لبدوت أعرق الطيور وأفضل طيور الغابات»
فلم يتمالك الغراب فرحه
فحتى يعلن صوته الجميل
يفتح منقاره العريض فتقع منه فريسته
فيلتقطها الثعلب ويقول له :
« سيدي الطيب تعلم أن كل متملق
يعيش عالة على من يسمع له
وهذا درس كلفك الآن فقط وبغير شك هذا الجبن
ويخجل الغراب ويضطرب وقد تعهد
ولكن متأخراً أن لا يؤخذ به أبداً
فيالمكر الثعالب وما تتصف به من تلك الصفة ! أترى هذا المكر قد جاء إلى الثعلب وتملك من عقله فغدا محتوى وراثياً تأصل فيه أم أتاوه من البيئة التي يعيش فيها حتى يستطيع أن يحافظ على نفسه في غابة يشتد فيها التنافس بين الحيوانات وكل حيوان له من الصفات ما يؤهله لهذا التنافس .
يقولون أن الحيوانات ليس لها عقل ولا إدراك ولكن أغلب الظن أن لها منه مقداراً كثيراً أو قليلاً يجعلها تدرك وتفهم وإلا فلماذا يهرب بعضها إذا تعرض لمن يؤذيه ولماذا يهاجم بعضها ويكشر عن أنيابه عندما يشعر بالأذى من غيره ؟ فلابد من أن يكون لعقولها ما يحملها على التبصر والإدراك والثعلب من بين الحيوانات يعرف بمكره وهذه الصفة تنطبق على الشخص الذي يمتلك هذا المكر وهذا الدهاء فإذا من يعرفونهم يلقبونه دائماً بالثعلب وبعض الناس الكثير أو القليل منهم الذين يُلقَبون بالثعالب لما بهم من مكر وخداع يسعون بهما إلى النفاق والتملق ليحصلوا على رغباتهم في نفوسهم كما أن بعض اولئك الذين يُتمَلقون يرضخون إلى ذلك فيرتضونه ويستسيغونه ويشعرون فيه بالغرور والتعاظم . والشاعر في هذه الحكاية – وهوككل حكاياته يرمز بها إلى الإنسان فالغراب والثعلب هم نمطان من أنماطه أحدهما يتملق والثاني يستهويه هذا التملق والرمز فيها لمن يتبصر واضحاً جلىٌّ ، يبدو من أستخدام الكاتب لبعض الألفاظ في حكايته ويبدو معه في محتواها . ولكن هناك أمرين أحدهما كان في بال الكاتب -أو على باله كما يقولون علماء النحو – وهذا ما لانشك فيه والثاني لا نعرف إن كان يرمي إليه أم هو فقط عنصراً من عناصر الحكاية وضعه فيها ليحكيها أما الأمر الأول فهو أستخدامه الفاظاً ترمز إلى الإنسان فينسب إلى الغراب والثعلب ألقاباً فيقول الأستاذ غراب maitre corbeau والأستاذ ثعلب maitre renard وعندما يحدث الثعلب الغراب يلقبه بسيدي monsieur
وهي ألقاب لا تطلق على الحيوانات وإنما على الأشخاص اما الأمر الثاني فهو قطعة الجبن وهي عنصر من عناصر الحكاية فمن المعروف أن لا يأكل الجبن لا الغراب ولا الثعلب وإنما الأشخاص هي التي تأكله وهناك أمر ثالث وهو أن الحيوانات ليس من شيمها التملق أو النفاق إلا إذا قلنا أن المداعبة بينها هي شكل من التملق تهدف إليه لتستدني وتسترضي غيرها . وغير ذلك من الأمور يمكن أن نستشفها من هذه الحكاية القصيرة الموحية فمنها ما هو فلسفي ونفسي ومنها ما هو اجتماعي وسياسي فهي درس للأغبياء للذين يخدعون بالمدح الكاذب يشعرون بعضه بالخسارة والخجل وهي توضح قيمة الذكاء إن كان يرتبط بالتملق فالثعلب لا يستطيع أن يستخدم القوة فيما يرغب فيه فيستخدم المكر أما القوة فهي قوة الحديث المقنع وقدرة المخادع بخداعه في الحصول على ما يطمع دون عنف فهو الذي يتحدث فهو الخطيب الجيد الذي ينتقي ألفاظه والذي يتملق ليحقق رغبته ومع ذلك فهو الذي يلقي مغزي الحكاية التي تبدو في نهايتها أما الثاني المُنافَق فيصمت ويستمع في نشوة يخضع لها في زهو وغرور هو فيهما وفي الحقيقة مخادع كالأول فهو قد خدع نفسه وأعتقد أن بها ما يرى فيها من ينافقه ولهذا بعد أجتماعي فالمرتبة الأجتماعية التي نلمحها من محتوى الحكاية قد تبدو فارغة وخاوية إذا أرتبطت بالغرور والكبرياء أما ما يزلل ذلك فهي الحكمة التي يستطيع بها الإنسان أن يدرك ما هو حقيقي وما هو خاطئ وهو التعلم من ادراكه حتى لا يخسر ولا تسقط عنه مبادؤه الشخصية والأدبية واوضاعه المادية والأجتماعية معاً ويظل بعد ذلك أمر سياسي كثير ما يضمنه الكاتب حكاياته وهو انتقاده للوضع السياسي في العصر الذي كان به والذي كان يملك فيه الملك لويس الرابع عشر على فرنسا . وقد يبدو ذلك تزيداً أو إضافة لما هو ليس بالحكاية ولكن في تبصرنا لما يكتبه الكاتب نلمح دائماً هذا النقد الخفي الذي كان لا يستطيع أن يبرز مضمونه بأسلوب به تصريح في ذلك الوقت مثلما كان الكثير من الكتاب الذين لم تكن لهم الحرية أمام القدرة الملكية وأمام من يمتلكون السلطة على النقد المباشر فيخضعون أدبهم يضمنونه الرمز والتلميح فللنظر في دقة إلى وضع الغراب والثعلب في الحكاية فالأول يضعه الكاتب في مرتبة أعلى يعتلى فيها شجرة قائمة فيرمز بذلك إلى مرتبة الحاكم أو الملك وإلى الذين يتحكمون في مبادئ السلطة ويضع الثاني في مرتبة أسفل كأفراد الشعب الذين يتملقونهم وينفاقونهم ومنهم من هم إلى جانب الملك في بلاطه ممن يسعون إلى هذا التملق والنفاق يهدفون بهما إلى الحصول على رغبة يطمحون إليها أو يطمحون بالتودد إليه في التقرب منه والأستحواز على امتنانه .