بقلم: درويش صباغ
آن أن نفترق لم يعد دربنا ، بعد أربع وأربعين سنة واحداً، ولم يعد لنا أن نستمر في لقاء بعد هذا ، تمضين أنت في طريق ، وأمضى أنا في طريق ، ولن يكتب لنا من لقاء آخر بعد هذا اليوم ، فقد أنتهى ذلك الزمن الجميل ، وسوف يرحل الياسمين وسوف ترحل السنون تبحث عن عاشقين غيرنا حملا حباً وعشقاً بحجم ذلك الحب عبر المحيطات وعبر كل الغام الزمن ! سوف نفترق لأن الأرض بكل اتساعها وبكل أبعادها وبكل ما فيها من اشياء كانت تجمعنا ، لم تعد بذات القدرة على احتواء أثنين مثلنا ، لم تعد لها تلك المقدرة ولا تلك القوة لمعايشة احاسيسنا ومشاعرنا المتدفقة بحب وبتفان وبذوبان أحدنا بالآخر . كان يجب أن نفترق لأننا وصلنا إلي طريق مسدود لا يتسع لنا نحن الاثنين ، كان يجب أن يغادر أحدنا ليفسح الطريق للآخر ، تلك هي أساليب الحياة وتلك هي لحظة المواجهة مع القدر ، وتلك هي اللحظات الفاصلة في التاريخ . نحن الاثنان كنا كمن يفكر بالأبدية وباستمرار الحياة وبتدفق ينابيع التواصل إلى ما لا نهاية ، لم نفكر في فراق ولم نفكر بمغادرة أحدنا للآخر وكأنما نحن مخلوقان مختلفان رسمت لهما الحياة الدنيا طريقاً آخر يعبرانه دون غيرهما من الناس ، طريقاً لا ينفذ وليست له نهاية . ثمة أمور تسير بمطلق العفوية والبراءة وتختزل تاريخاً إنسانياً من الحب ومن التجرد والانعتاق من بوتقة “الأنا” وتفاصيلها وكل ما يمت إلى الانانية والتفرد بالقرار وبالتفكير بالآخر ، نوع من كيمياء الحياة التي نتبادلها مع الآخر ، نوع من انصهار مواد كيمائية مختلفة ومتنوعة لتخرج في نهاية الأمر مادة جديدة تنفسناها ، أنا وأنت على امتداد زمن جميل بكل ما فيه وبكل ما يمكن أن يكون لنا في هذه الحياة . كان المشوار طويلا وكان الحصاد بعد ذلك هو كل ما يمكن أن نصل إليه . كانت الأمور لسبب ما أو بسببٍ ما كأنها ريح صبا توقظ بنا بين فترة وأخرى مشاعر حياة جديدة تدب في عروقنا وتسري في شرايين متعة الاستمرار بعيش أحببناه ورضيناه لنا كي نستمر معاً دون أن نتوقف أمام لحظات فاصلة عند نقاط حدود لتقديم الأوراق اللازمة للعبور . نحن في جميع مراحل حياتنا معاً تجاوزنا كل نقاط كان يجب الوقوف عندها ولو للحظات تأمل . أخذتنا الحياة بكل ما فيها من درجات عليا إلى طبقات جديدة من استمرارية في التألق والتباهي بما نحن عليه ومما وصلنا إليه . ارادة الحياة عندنا كانت الأقوى وكانت الأجمل وكانت ذلك العبور العجائبي الذي كان يضمنا وكان يبعدنا عن مدارك الانزلاق وعواقب التهور في أمر ما . كان استسلامنا لطبيعة الأمور هو نوع ما استسلام لحقيقة حياتنا واختلاط رؤانا وتطور نظرتنا إلى كل ما كان يجمعنا . كأنما في نهايات كل القصص والروايات ومفاصل التاريخ الموثقة تأخذ الأمور منحاً آخر لم يكن لنا به من سبب يصل بنا إلى فراق كان لابد منه لاستمرار الحياة لأحدنا ، كأنما آن نفترق في هذه اللحظة بالذات وان يقف أحدنا على حدود هذه الدنيا وحيداً وقد اعتراه وجل وعصفت به مفاجأة لم يكن قد أستعد ولا حسب لها . مفاجأة لحظة الفراق زلزال يعود بالإنسان إلى الدرك الأسفل من الإحساس بتوقف الحياة عند منعطف خطير سوف يجتازه وحيداً بعد أن فقد كل شئ ، وبعد أن حضر شهود الفراق بمهرجان يعبرون فيه عن مشاعرهم في تلك اللحظة الزمنية الفاصلة وقد انفطر عقد المودة والمحبة والأمان . الآن أصبحنا اتنين منفصلين سوف يتابع أحدهما مسيرته بكثير من الذكريات وبكثير من الشجن وبكل ذلك الحب وقد عاشه سنوات وسنوات وسنوات . لا بد من فراق ، هكذا الأمور سوف تكون وهذا ما كتب لنا من غير أن ندري ومن دون أن نعلم ، وسوف يكون الوداع الأخير الذي لا لقاء بعده إلا في ذكريات سوف أعيشها وفي أمور حياتية مختصرة أمارس فيها لعبة الحياة بحلوها ومرها إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً !