بقلم: إدوارد ثابت
عندما كنت بمرحلة دراستي الثانوية عرفت الشاعر لامارتين الذي عاصر القرن التاسع عشر مع غيره من شعراء وكتاب ذلك العصر مثل فيكتور هيجو وألفريد دوموسيه وأناتول فرانس وغيرهم وعرفن أن لامارتين يشتهر برومانسيته في شعره ، وأن له قصيدة نظمها في ذلك الوقت هي البحيرة وأن هذه القصيدة هي من أهم القصائد التي نظمها والتي تبدو فيها هذه الرومانسية التي تتضمنها اشعاره بل وأشهرها ، ولكني عرفتها بشكل عام لأن تفاصيل مثل هذه الأعمال الشعرية وتحليلها لمعرفة ما تحويه في الشكل وفي المضمون يدرس غالباً في القسم الفرنسي بكلية الاداب . ومنذ فترة كنت أكتب موضوعاً ليس له علاقة قوية بهذه القصيدة ولكني رغبت فيه فقط في ان أضرب مثلاً منها ضمن هذا الموضوع فنظرت فيها لأضع هذا المثل ، فلم أشأ إلا أن أقرأها كلها فأعجبت بها تفصيلاً بعد أن كان عاماً إن صح ان يتفاوت الإعجاب بين التفصيل والعام فراودتني رغبة في أن أترجمها إلى اللغة العربية فتركت ذلك الموضوع الذي كنت أسعى إلى كتابته ، غير اني رأيت أن كثيرين من الأدباء والكتاب قد ترجموا هذه القصيدة وعلى رأسهم الشاعر أحمد شوقي على الرغم من أن ترجمته يبدو قد ضاعت فلم تنشر فقد ترجمها كما يقول البعض عندما كان في بعثة للتعلم بفرنسا فترجم القصيدة وأرسلها إلى الخديوي توفيق ، وعند عودته إلى مصر لم يحصل على تلك الترجمة ، ولم يكن يمتلك مسودة لها فضاعت ، هذا ما يقال وليس له تأكيد إن كان صحيحاً أو لغواً . ويبدو أن القصيدة قد زاع صيتها ، عند كتاب العربية ، فقد ترجمها على محمود طه ، وإبراهيم ناجي ، والعوضي الوكيل ، وعبد الرحمن بدوي ، وأحمد حسن الزيات ، ومحمد مندور ، ومن لبنان ترجمها نقولا فياض وإلياس طعيمة وغير أولئك وهؤلاء من الشعراء والأدباء . رأيت ذلك فتغاضيت عن ترجمتها ليس لمبرر ما سوى رؤيتي أن ترجمتي لن تضيف كثيراً بعد أن أندفع إليها هؤلاء الأفذاذ .ورغبت فقط في أن أنظر إلى تراجم بعض الذين ترجموها . كتب لامارتين قصيدة البحيرة متأثراً بحب مسَّ قلبه وقلب من أحب ، ولكن الفراق يحول بينه وبين محبوبته ، فقد كان يتنزه يوماً على شاطئ بحيرة بورجيه بفرنسا Le lac de Bourget فرأى إمرأة هي جوليا شارل تسعى إلى الانتحار فينقذها ثم يتجول معها بأنحاء البحيرة فيحدثها وتحدثه حتى يغلب الحب عل حديثهما فيربط بينهما ، ولكن كان عليها أن تفارقه إلى بلدة بعيدة فاتفقا على أن يلتقيا بعد عام ولكنها تموت فيحزن حزناً شديداً ويذهب إلى البحيرة بالمكان الذي ألتقيا فيه ويسترجع ما كان بينه وبينها وينظم هذه القصيدة ، وفيها يتساءل في دهشة وأسى ان يندفع الإنسان دائماً إلى شواطئ جديدة مجهولة لا يستطيع منها رجعة ولا يستطيع معها أن يمنع ما يحدث له ، ويناجي البحيرة وكأنما يناجي معها محبوبته فيشهدها على رؤيتهما معاً عندما كانت تجلس على صخرة من الصخور وقد داعب زبد الموج قديها اللتين عشقهما وكيف كانا يسبحان في هدوء فلا يأتي إلى سمعهما غير صوت المجاديف التي تجف بإيقاعها مياه البحيرة فإذا هو يؤنب الزمن ويستجديه في أن يعطل سرقته ويتركنا نذوق تلك اللذات التي تذهب سريعاً كما أتت سريعة ، فيرى الزمن غيوراً لا يلبث أن يمنح السعادة حتى تدنو أيام الشقاء ويسأل الأزل والعدم والماضي في يأس أن يفصحوا هل يمنحون تلك النشوة التي يسرقونها ثم يلقي حديثه في استجداء إلى البحيرة وإلى ما حولها من الصخور والكهوف والغابة أن يحفظوا ما كان بينه وبين محبوبته وأن يقر ما يحيط بها من النسيم والشواطئ والنجم والرياح والغاب والعطور التي تنساب في هوائها ، وفي كل ما يسمع ويرى ويتنفس فيعترفوا ويقولوا : لقد كانا عاشقين . وقد نظم لإدارتين قصيدته على هيئة فقرات أو رباعيات ، كل فقرة منها تتكون من أربعة أبيات في شعر موزون مقفي . والوزن في الشعر الفرنسي يرتكز بشكل عام على المقطع اللفظي syllable وهو يضاهي التفعيلة التي تنظم النظم العمودي العربي وأن اختلفا في الشكل والمضمون ، فالمقطع هو الكلمة أو الجزء من الكلمة التي تحوي حرفاً صوتياً أو ما يطلق عليه البعض بالعربية الحرف المتحرك فمثلاً كلمة ton هي من مقطع فقط وTonalitéمن أربع مقاطعLi Na Té Téوأوزان البيت الشعري كثيرة تبدأ من مقطع منفرد حتى أثنى عشر مقطعاً . أما الثانية Rime فهي ثلاثة أنماط فقد تكون قافية بين البيتين الأول والثاني والرابع وهي المتقاطعة ثم بين البيتين الأول والرابع معاً والثاني والثالث معاً وهي القافية المتعالقة فأنظر إلى جزء من قصيدة لامارتين التي تشهد فيها البحيرة على ما كان بينه وبين حبيبته وعلى ما بدا عليه بعد أن فارقته يقول فيها . ولهذه الأنماط رموز هي :
AABB:ABAB:ABBA
(A) Tu mugissais ainsi sous ces roches profondes
(B) AINSI tut e brisais sur leurs flancs déchirés
(A ) Ainsi le vent jetait l’écume de tes ondes
(B) sur ses pieds adorés
وها نحن نترجمها : هكذا كنت تخورين تحت هذه الصخور العميقة
وتنكسرين فوق جوانبها الممزقة
وتطرح الرياح زبد أمواجك
على قدميها المعشوقتين .
فأستخدم لامارتين في قصيدته كما في هذا الجزء وزنين من أوزان الشعر التزامهما في كل فقرات أو رباعيات القصيدة ، الأول في الثلاثة أبيات الأولى وهو يتكون من أثنى عشر مقطعاً ويسمى Alexandria تتضح هكذا
Tu|mu|gi|ssais|ain|si|sous|ces|ro|ches|pro|fonde
والوزن الثاني في البيت الرابع من كل فقرة وهو يتكون من ستة مقاطع ويسمى Hexamètre
يبدو هكذا sur|ses|pieds|a|do|rés أما القافية فهي متقاطعة ويرمز لها بالرمز ABAB بين البيتين الأول والثالث اي بين profondes وondes وبين البيتين الثاني والرابع أي بين déchirés وadorés . رأيت أن الكثيرين قد ترجموا هذه القصيدة بعضهم ترجمها شعراً وبعضهم ترجمها نثراً فقرأت الشعر وقرأت النثر اللذين نظم بهما وكتب أولئك وهؤلاء . اما الشعر فلي راي فيه ، فعلى من الرغم أن هذه القصائد التي قرأتها بليغة قوية فيما تحويه بشكل عام ، ولكن من الصعب بل أقول أقرب إلى المستحيل أن تستطيع القصيدة التي تترجم شعراً من لغة ما نظمت فيها بالشعر في ان تفصح مفرداتها عما تفصح عنه مفردات القصيدة الرئيسية وإن استطاعت في جزء منها فلن تستطيع في كل أجزائها ، لأن قواعد الشعر الفرنسي التي يرتكز توظيفها على ما يسمى بالمقاطع تختلف عن قواعد الشعر العربي التي ترتكز أوزانها على البحر وتفعيلاته في الشعر العمودي ، وعلى الموسيقى والإيقاع في الألفاظ وتجانسها في الشعر الحر .
البقية في العدد القادم