بقلم: ادوارد ثابت
ملخص العدد الماضي
عندما كنت في دراستي الثانوية عرفت الشاعر الفرنسي لامارتين وقصيدته المشهورة (البحيرة) وبعد فترة قرأتها فرغبت في ان اترجمها ولكني رأيت أن كثيراً من الأدباء المشهورين قد ترجموها فرغبت في أن أنظر إلى ما ترجم منها شعراً ونثراً – وقد كتب لامارتين قصيدته بعد أن التقى بفتاة هي جوليا شارل على شاطئ بحيرة بورجيه بفرنسا ولكنها مفارقة فيذهب إلى البحيرة وينظم قصيدته يؤنب فيها الزمن ويُشهد البحيرة وما حولها على ما كان بينهما – وقد كتبها على هيئة رباعيات وفي وزنين من أوزان الشعر الأول من اثنى عشر مقطعاً Alexandrin والثاني سداسي المقاطع Hexametre واستخدم فيها القافية المتقاطعة ويرمز لها Abab وهي قافية بين البيت الأول والثالث وقافية بين البيتين الثاني والرابع .
وممن قرأت شعرهم المترجم عن قصيدة لامارتين البحيرة الدكتور العراقي بهجت عباس الذي ترجمها عن الإنجليزية ، والطبيب الشاعر اللبناني نقولا فياض الذي ترجمها عن أصلها الفرنسي ، والقصيدتان قويتان في نظمهما وتوضحان قدرة الشاعرين على كتابة الشعر وقدرتهما على معرفة قواعد الشعر العربي فيما يكتبان ، وقد أعجبت بقصيدة بهجت عباس ، فعلى الرغم من ترجمته القصيدة عن اللغة الإنجليزية إلا أنك عندما تقرؤها تشعر فيها بالكثير من أحساسيس الشاعر لامارتين التي تبدو في قصيدته ، ومع ذلك ففيها تلك الصعوبة التي تفصح مفرادتها غن مفردات القصيدة الرئيسية لذلك الإختلاف بين قواعد الشعر الفرنسي وقواعد الشعر العربي . فقصيدة لامارتين تقول بدايتها :
أهكذا نندفع دائماً إلى شواطئ جديدة
وفي الليل الأبدي نحمل بلا رجعة
فهل نستطيع على محيط الزمن
أن نلقي مرساتنا يوماً
وهذه ترجمة بهجت عباس :
وهكذا في عباب البحر مخرت بنا السفينة نأياً عن مراسيها
في ظلمة طوقتنا غير زائلـــة فلا صباح يرجى من حواشيها
يجرى بها قدما لا رجوع لها ولا استراحة يوم راح يسديها
فالقصيدة جيدة قوية في بنائها وألفاظها فنظمها الشاعر على بحر البسيط وتفعيلاته (مستفعلن فاعلن) أربع مرات وفي الشطر الثاني (العجز) علل فاعلن إلى فعلن . والتزم فيها بقافية واحدة هي الياء والهاء المقصورة ، ولكنه مع ذلك كرر قافية تكراراً طفيفاً بيديتين قال في أولهما نرْويها بالسكون على حرف الراء وقال في الثاني يُرَوَّيها بالفتحة على حرف الراء وبالشدة المكسورة على الواو . وفي جزء من القصيدة يقول لامارتين عندما يلقي حديثه إلى البحيرة وكأنه يشهدها على ما كان بينه وبين حبيبته :
أترين أترين لقد جئت الآن وحدي أجلس على هذه الصخرة
التي رأيتها تجلس عليها
هكذا كنت تخورين تحت هذه الصخور العميقة
وتنكسرين فوق جوانبها الممزقة
وتطرح الرياح زبد أمواجك على قدميها الممشوقتين
ولكن بهجت عباس يقول :
كانت على الصخرة الصماء جالسة والموج يرقص مختالاً حواليها
ويقذف الرغوة النعسى على قدمي جوليـا حنواً فتشدو في أغانيهــا
والآن أجلس وحدي فوق صخرتها والنفس في شجن من ذا يواسيها
أما لامارتين فهو يشهد البحيرة وما حولها ، الصخرة والصخور كلها والغابة بل والنسيم الذي يهب عليها فكيف يقول عن الصخرة صماء – ثم يقول أن الموج يرقص مختالاً وأن الرغوة تشدو في أغانيها وهذا يوحي بالبهجة والمرح مع أن إحساس لامارتين في هذا الجزء وفي القصيدة كلها يوحي بالأسى والحرمان من فراق حبيبته . ثم ينسى شيئاً هاماً هو أن الشاعر الفرنسي يتغزل في قدميها اللنين يعشقهما عندما كانت الرياح تطرح زبد أمواج البحيرة عليها وقد جلست على تلك الصخرة . ويقول المترجم عن القارب الذي كان يسبحان به (القارب السَهمان) بفتح السين، ولا أعرف كيف أن بهذا اللفظ ، فسهَم أي تغير لونه من الهم والهزال فلو أخذها كنعت للقارب فليس من الممكن أن يتغير لون القارب من الهم ، وإذا أخذها كاستعارة فمن الخطأ أن ينطبق ذلك على القارب ثم إذا رأها من ساهم الطرف أي شارد البصر كما يقول إبراهيم ناجي في قصيدة الأطلال (ساهم الطرف كأحلام المساء) فهذا فيه أختلاف في المضمون وفي الصورة الشعرية فالشرود في ذلك للبصر ، ولقد خمنه شرود القارب في سيرة فهذا ينأى عن التركيب اللغوي لأن ساهم كلفظ يرتبط بالطرف أي البصر ، ثم أن لامارتين مع كل ذلك لم يبرز عن القارب شيئاً سري أن قال (كنا نسبح في صمت) مما لا يملك به المترجم المبرر في أن ينعت القارب بهذا اللفظ. ويقول في هذا الجزء أن المجاديف التي كان الحبيبان يسمعانها وهما يسبحان تشدو أي تغني على الرغم من أن لامارتين يوضح سماع إيقاعها وهي تحف المياه . وهناك فرق بين الغناء الذي يؤثر بالبهجة وذلك الإيقاع المرهف في حسه الذي يوحي بالشجن . فأنظر إلى ذلك الفرق ، يقول الدكتور بهجت عباس:
جرى بنا القارب السهمان في مرح تحت السماء وفوق السماء ساريها
وكل ما حولنا صمت ولا صخب إلا المجاديف تشدو في أغانيها
ولكن الشاعر لامارتين يقول في ترجمة :
هل تذكرين ذات مساء وكنا نسبح في صمت
ولا نسمع على البعد فوق الموج وتحت السماء
غير إيقاع المجاديف تحف مياهك المنغمة
فالشاعر الفرنسي لم يقل عن القارب ذلك السهمان الذي نعته به المترجم ولم يتحدث عن المجاديف التي تشدو فيما تغنيه وذلك هو الأضطرار الذي يضطر إليه من يترجم شعراً من لغة ما إلى شعر من لغة غيرها ولا سيما اللغة العربية . وفي جزء ثانٍ يقول الدكتور بهجت عباس : ياأرض رفقاً بنا لا تسرعي أبداً ، فلماذا أتى بلفظ الأرض بينما لامارتين لا يستجدي الرفق من الأرض وإنما يستجديه من الزمن فهو يقول : أيها الزمن عطل سرقتك وأيتها الساعات المتزامنة أمنعي جريانك فكان أولى بالمترجم أن يقول بدلاً من يا ارض رفقاً ، يا دهر رفقاً ولن يغير ذلك منله الوزن الشعري للبيت . ويقول الدكتور بهجت عباس في بيت من أبيات قصيدته
فيا صخوراً على الشاطئ تداعبها الأمواج في جذَل والماء يرويها
ولكن لامارتين لم يوضح من ذلك شيئاً فلم يقل أن أمواج البحيرة تداعب الصخور وأن الماء يرويها وإنما يقولها يصونها الزمن – ثم يضع لفظ الشاطى بلا همزة حتى يحافظ على وزن البيت ، وهذا ما يمكن التغاضي عنه ولكن على مضض فكان من الأفضل له أن يقول الشطء بالهمزة أو الشط بغيرها ولن يغير ذلك من الوزن الشعري . ولن يغير هذين اللفظين من المضمون الذي يعرضه ثم عندما يقول الأمواج تداعب الصخور في جَذل أي في فرح فالصورة فالصورة الشعرية في ذلك تناقض المضمون الذي يبثه لامارتين في قصيدته بالأسى ، الذي يبدو فيه ثم لماذا يضفي المترجم وهو يتحدث عن البحيرة وما حولها في هذا الجزء وفي غيره شيئاً من البهجة في عرضها وهو ما يختلف عن أحساسيس لامارتين التي يبرزها بل وتتعارض معها . ولامارتين ينهي قصيدته بجملة قصيرة ولكنها حانية شجية فهو يحث كل ما بأركان في البحيرة ، ما يسمع فيها وما يرى ويستنشق أن يقروا بما كان بينه وبين حبيبته فيقولوا لقد تحابا أو لقد كانا عاشقين ولكن الدكتور بهجت عباس يلقي حديثه فيقول لكل ذلك :
تذكروا أثنين عاشا في ربوعكم تساقيا الحب صفواً في أعاليها
ألا ترى في الألفاظ (عاشا وربوعكم وأعاليها شيئاً غريباً ) فلفظ عاشا يوضح الإحساس بحدة طويلة كان من الأفضل له إن كان في البيت بعض الصدق أن يقول (كانا) كحدث ماض لهذا الوقت الذي تجولا فيه بالبحيرة – أما ربوعكم اي دياركم ، فهل كانت البحيرة ديارهما التي عاشا فيها وأستقرا بل كما يقول المترجم في أعالي هذه الديار ، ذلك فيه كثير من المبالغة بل والشطط في الترجمة : بل وكانك به تقرأقصيدة تفصح عن بيئة العصر الجاهلي أو ما تلاه من العصور العربية ، ومع كل ذلك لم يسعَ الدكتور بهجت عباس إلى أن ينهي ترجمته فيوضح تلك الجملة الشجية التي أنهى بها لامارتين قصيدته ومع كل ذلك فالمترجم يترك أشياء هامة يوضحها لامارتين يؤنب فيها الزمن الذي يراه غيوراً عندما تأتي السعادة فلا تلبث أن تنأى سريعاً مثلما يسرع الشقاء ولا يستطيع الإنسان أن يستبقى من السعادة أثراً ويستجديه لامارتين في ذلك المضمون الفلسفي ألا يترك التعساء والسعداء معاً ، فيكفي التعساء ما بهم وأن ينسى السعداء بما يفعله ضدهم وإذا هو في ذلك يتمنى بعض اللحظات الهنيئة ولكن بلا جدوى لأن الزمان ذلك الغيور يفر منه ويهرب . أرأيت رغم قوة هذه القصيدة في بنائها ورغم ما بها من بعض القصور كيف لا تتماشى ترجمة القصيدة الشعرية من لغة إلى لغة شعراً ، فهي قد تفسد أو تفقد منها الكثير أو تضيف إليها ما ليس بها وكأنما في مثل تلك الترجمة يترجم مضمون النص وليس النص كما هو موضوع إن صح أن تكون الترجمة للمضمون .
البقية في العدد القادم