قصة قصيرة بقلم : سوسن شمعون
بعد أن حزم أمتعته وضعها جانب باب غرفته و دخلت أمه وهي ترمقه بنظرة عتب قائلةً : أما زلت مصمماً على السفر و الاغتراب , فأجابها بكل إصرار : نعم فليس لي هنا مستقبل ولا أمل بالبقاء في بلد يتخبط من الألم بسبب تعنت أبنائه , فعادت الأم لمحاورته قائلةً: لكن أنا ووالدك … فقاطعها بغضب و قال: سفري بعد يومين و يجب أن أكمل استعداداتي , ثم أنت و أبي لستما بحاجتي بالمطلق فهناك إخوتي و أنا بكل تأكيد عندما أحصل على عمل سأساعدكم دون شك , فنهرته قائلة: لسنا بحاجة للمال يا ولد ما ينقصنا هو أنت ألا تفهم ؟ إذا ابتعدت و تغربت سأبقى قلقه عليك و كم أرجو أن لا تتعرض لما يتعرض له المسافرون بهذه الظروف. وقف أمامها و أمسك يدها بحنان و استجداء و رد بقوله : اطمئني سأكون بخير و أي وضع هو أرحم من هذا الوضع المقيت الذي نعيشه هنا في بلدنا , أنا ذاهب هذا المساء لأودع أصدقائي و قد أتأخر قليلاً , لا تقلقي علي. و انصرف و هو يحاول مداراة ألمه على أمه متفهماً خوفها عليه , و بينما هو ذاهبٌ للقاء رفاقه أحس بتثاقل الخطى وكان يكثر التأمل في كل زاوية من زوايا الشارع الذي يقطنه منذ نعومة أظفاره , و أصبح يحدّث نفسه بحُرقة : هنا ربيع الذكريات و هنا ملاهي الطفولة الشقية , هنا كسرنا أنا و أصدقائي تلك الشجرة عندما كنا صغاراً و هاهي تظهر باسقةً عالية و هذا جارنا صاحب الحانوت العتيق الذي كان يصرخ فينا لكثرة ضجيجنا و نحن بالمقابل لا نوليه اهتماماً وهو يهدد دونما تنفيذ , كم كبرت يا عم و كم كبرنا نحن , و تلك البوابة المتآكلة لبيت جارتنا العجوز كم مررنا عليها و أطلقنا أقلامنا برسومات ساخرة و هي تنظفها دائماً و رغم طيشنا كان الجيران يتحملوننا برحابة صدر متفهمين أننا رفقاء طيش و صبا , ليت تلك الحرب لم تقع و ليتنا بقينا أطفال عابثين , لماذا أذكر كل شيء الآن و أنا يومياً أمر من هنا , لماذا كل هذا الفيض من الحنين و أنا لم أسافر بعد ؟ يدخل إلى بيت صديقه فيرى الكل مجتمع عنده كما اتفقوا, يقفون و يسلمون عليه بحرارة و محبة اعتادها فيهم و تساءل في نفسه :هل سأجد أمثالكم في الغربة ؟ لم يستطع التحدث و هو يحدق برفاق العمر و الدرب , وكأنهم فهموا ألمه فلم يتكلموا هم أيضاً و بادلوه تلك النظرات المليئة بحزن على أيامٍ خلت و صور الذكريات تمر أمام أعينهم بذلك الوقت, ذلك الصديق ساعدني كثيراً في الدراسة و هذا كان يقف إلى جانبي في المآزق دائماً , والآخر لا أنسى معروفه يوم تعرض أحدهم لأختي فدافع عنها , وذاك الذي يعيش في حينا كلما رأى أبي أو أمي يحملون حاجيات المنزل ترك كل شيء و هب لمساعدتهم , وغيره أيضاً , قصص كثيرة تراءت لحظتها على باله عن الجميع , إنها آخر اللحظات مع أصدقائه القدامى أصدقاء الدراسة و المشاكسة و الأيام العذبة , وبعد عناقٍ طويل معهم و كلامٍ من الصميم يرجو التوفيق فيه للجميع غادر إلى بيته و هو منكس الرأس موجوع الفؤاد لا تفارقه تفاصيل حياته الماضية , وطنه هو ذكريات الطفولة و مشاكسات الصبا , وطنه خوف أمه عليه و انفعال أبيه , وطنه عراك مع إخوته وشقاوته مع أولاد الحي , وطنه شجرة باسقة مهما حاول كسرها الصغار عادت لتنمو و ترتفع أكثر و أكثر , وطنه تلك العجوز التي تتحمل عبث الأطفال بألوانهم على بوابتها ولا تمل تنظيفها كل مرة , وطنهم هذا البائع الهرم الذي يصرخ فيهم مهدداً ولم ينفذ يوماً تهديده , وطنهم فرحهم و نجاحاتهم و أمجادٌ صغيرة و أحلاماً حققوها , أين تتركون كل هذا و تهاجرون يا أبناء الوطن يا من صنعتم تفاصيل الوطن.