بقلم: د. حسين عبد البصير
أسباب وراء اللعنة
وربما شاع هذا الخطأ بوجود لعنة بسبب الترجمة الخاطئة للتعويذة الحامية (الفصل 151 من كتاب الموتى) الذي نُقش على تمثال حامٍ في المقبرة. وبالفعل وُجدت لعنات في عدد من المقابر في مواقع أخرى. وانتشر مثل هذا النوع من اللعنات في مقابر الأشراف، بينما لجأ الملوك إلى وسائل أخرى أكثر طبيعية لحماية مقابرهم من السرقة والاعتداء.
وفي عام 1932م كان «كارتر» قد أتم عمله القائم على ترميم الآثار المستخرجة من مقبرة «توت عنخ آمون»، ثم أخرج الجزء الثالث والأخير من كتابه عن المقبرة، ثم أخرج ستة مجلدات عن مراحل الكشف. ومات في 2 مارس 1939م في لندن مكللا بالشهرة والمجد والفقر. ثم بيع أثاث منزله في قاعة «سوثبي» للمزادات الإنجليزية الشهيرة في شهر ديسمبر من العام نفسه، بينما بيعت مكتبته بعد ذلك بشهرين في 22 من شهر فبراير من العام 1940م. أي أنه عاش سبع عشرة عامًا بعد اكتشافه المقبرة مما يؤكد عدم إصابته بلعنة «الملك توت». وكان من باب أولى أن يكون هو أول المصابين وضحايا الملك «توت» متأثرًا بما أُطلق عليه في حينها «لعنة المومياوات الفرعونية».
وحدث أن أصيب الأثري المصري الراحل سامي جبره وفريقه بصداع حاد وضيق شديد في التنفس وهم يعملون داخل سراديب المعبود «أيبس» في منطقة «تونا الجبل» الأثرية في محافظة المنيا في صعيد مصر في أربعينيات القرن العشرين، فأشاع عمال الدكتور جبره حدوث لعنة انصبت عليهم بسبب عملهم في مدافن الطائر «أيبس» المقدس رب الحكمة في مصر القديمة، لكن رفض د. جبره تصديق ذلك، وأرجع ما حدث إلى تسرب غاز ما ضار من المومياوات وعاد إلى استئناف العمل في السراديب بعد ثلاثة أيام فقط.
ويُذكر أنه قيل إن عالم المصريات الأمريكي الأشهر ديفيد سيلفرمان تأثر بلعنة الفراعنة عندما كان المسؤول عن معرض «كنوز توت عنخ آمون» الذي طاف عددًا من الولايات الأمريكية بين الأعوام 1976-1979م. لكنه نفى ما ذكرته الصحافة الأمريكية عنه. وأكد عدم حدوث ذلك بل زاد أن نفى وجود أي نوع من أنواع اللعنة بصفته أحد أهم علماء المصريات المختصين في هذا الفرع من علم المصريات.
ولعل من بين أهم الاكتشافات الأثرية الأخيرة وتلعب فيها المومياوات دورًا مثيرًا تلك المومياوات الرائعة المغطاة بالذهب التي دائمًا تعطي شعورًا بأن الحياة لا تزال تدب فيها كلما نظرت إليها في ذلك الاكتشاف المذهل في الواحات البحرية الذي حققه عالم آثار مصر الأشهر الدكتور «زاهي حواس» وفريقه وأطلقت عليه وسائل الإعلام العالمية «وادي المومياوات الذهبية».
قصة طريفة
وكتب «د. حواس» في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه يقول: «كانت طاقة فريق العمل تبدو وكأنها تتلاشى وتزامن ذلك مع الشعور بالإرهاق كلما تزايدت حدة الحرارة مع ارتفاع قرص الشمس في السماء وقلل وجودنا داخل المقابر المنقورة تحت سطح الأرض – من شعورنا بحرارة الشمس المتوهجة التي كانت فوق رؤوسنا مباشرة.
وحقيقة الأمر أن أهم ما كان يجعلنا لا نشعر بحرارة الشمس ومشقة العمل هو ذلك المنظر المهيب حين تتسلل أشعة الشمس إلى المقابر لتسقط على وجوه المومياوات الذهبية فينعكس ضوؤها مثيرًا رائعًا يكاد يعمي الأبصار. عندها يخفق قلبي بشدة، وتغمرنا الدهشة جميعًا. وفي كل مرة نكشف فيها عن مومياء مذهبة نتيقن أننا بمنطقة تحوي أكبر مجموعة من الدفنات التي بقيت في حال جيدة من الحفظ تعكس مدى ثراء أصحابها».
ونقل الدكتور «حواس» مومياء إلى معمل أبحاثه بأهرام الجيزة. وأطلق عليها اسمًا تعريفيًا هو: «مستر أو مدام إكس»؛ إذ إنه لم يكن يعلم جنس المومياء. وكان أمر نقلها مثيرًا للغاية، وبعد تعريضها للأشعة تبين أنها لرجل مات في سن الخامسة والثلاثين تقريبًا.
ولعل من بين القصص الطريفة في اكتشاف «وادي المومياوات الذهبية» قصة ما أطلق عليه الدكتور «حواس» «لعنة مومياوات الأطفال». ولنتركه يروي لنا بنفسه ما حدث: «هي قصة طريفة حدثت لي بالفعل عندما نقلت مومياءين لطفلين من إحدى المقابر إلى حجرة صممت لتكون متحفًا في المستقبل. وسافرت بعدها إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمدة شهر للتدريس في جامعة لوس أنجلوس، وطيلة هذه الفترة لم تنقطع زيارات المومياءين لي في منامي، وما كنت أدري سبب ذلك، وذات ليلة وجدتهما يقتربان مني، فقمت من نومي مفزوعًا. ليس هذا فحسب، بل حدثت لي مفارقات عجيبة أخرى، منها عدم الوصول في الموعد المحدد إلى إحدى المحاضرات، وعدم لحاقي بالطائرة المسافرة إلى المدينة التي كان من المفروض أن ألقي بها المحاضرة. وعندما حضرت إلى القاهرة، ذهبت إلى الواحات البحرية، وتوجهت إلى الموقع ذاته الذي كشفت به عن المومياءين، فإذا بي أجد مومياء رجل آخر لعله والدهما، وعلى الفور قمت بنقله إلى جوار المومياءين في حجرة المتحف. ومن بعدها انقطعت زيارتهما لي في منامي، ونعمت بأحلام سعيدة- دون أرق على الإطلاق».
ولعل السبب في وجود المومياوات المصرية من الأصل يرجع إلى اعتقاد المصريين القدماء في حياة أخرى بعد الموت. وكان الحفاظ على الجسد أهم العناصر الأساسية لاستمرار هذه الحياة مرة أخرى. وتطورت عملية التحنيط عبر آلاف السنين من الأجساد المدفونة في حفرات بسيطة في رمال الصحراء إلى الأجساد المعتني بها عناية فائقة بلفها في اللفائف الكتانية.
ويرجع الأصل في هذا الاعتقاد الذي ساد بين عدد كبير من البشر في أنحاء العالم لوجود بعض النقوش داخل بعض المقابر الفرعونية تصب اللعنة على الذين يفسدون على الفراعنة أوقات راحتهم ويسطون على المقابر بغية السرقة، فهؤلاء ستصيبهم اللعنة بمرض لا يعرف الأطباء له علاجًا، وسيموتون في نهاية الأمر.
قوة الكلمة المكتوبة
وكان الهدف من وراء كتابة هذه النصوص التحذيرية هو منع اللصوص من اقتحام المقابر وسرقة محتوياتها من الأشياء الثمينة وعدم إعاقة رحلة المتوفى في العالم الآخر حتى يبعث من جديد وينعم بحياة خالدة في جنات النعيم. لقد آمن المصري القديم إيمانًا كبيرًا بقوة الكلمة المكتوبة التي كانت تعد نوعًا من السحر مما جعله يكتب مثل هذه النصوص واللعنات داخل مقبرته؛ فالكلمة عنده تحمل قدرًا كبيرًا من السحر ولها القدرة على الفاعلية وإعاقة اللصوص عن اقتحام مقبرته وسرقة محتوياتها التي يريد أن يتزود بها في رحلته في عالم الآخرة.
وكثرت نصوص اللعنة الحامية بشكل دقيق منذ عصر الدولة القديمة (2191-2687 ق.م) في محاكمة صاحب المقبرة في العالم الآخر ضد الأعداء. ففي مقبرة المدعو «ني كا عنخ» في طهنا التي تعود إلى الفترة نفسها، يعلن صاحب المقبرة: «بالنسبة لأي شخص سوف يحدث فوضى، سوف أحاكم معه». وعلى كتلة حجرية من مقبرة مفقودة تعود إلى العصر نفسه، يوجد نص يهدد بالعقاب الآتي: «التمساح ضده في الماء، الثعبان ضده على الأرض، الذي تسول له نفسه فعل أي شيء ضد هذه المقبرة، لن أفعل شيئا ضده، إنه الإله الذي سوف يحاسبه».
وتحمل اكتشافات «بناة الأهرام» في هضبة الجيزة التي اكتشفها الدكتور زاهي حواس وفريقه- عددًا من المفاجآت، من بينها نص اللعنة الذي نقش في مقبرة رئيس العمال الفنان: «بتتي» لحماية مقبرته، ونقش نص آخر خاص بزوجته: «نس سوكر»، يقول: «أيها الأحياء أجمعين، الداخلون إلى هذا القبر، المعتدون على هذا القبر بتشويهه، التمساح عليكم في الماء، الثعابين عليكم في الأرض، وأفراس النهر عليكم في الماء، والعقارب عليكم في الأرض».
وفي مقبرة المدعو «عنخ ما حور» في منطقة سقارة الأثرية، من الفترة نفسها، يقول صاحبها: «بالنسبة لأي شيء من المحتمل أن تفعله ضد مقبرتي في الغرب، الشيء نفسه سوف يُفعل في ممتلكاتك. أنا كاهن مرتل رفيع المستوى، أعرف أسرار التعاويذ وكل أنواع السحر. بالنسبة لمن يدخل مقبرتي غير طاهر…، سوف أقبض عليه كأوزة وأقذف الرعب في قلبه كما لو أنه يرى الأشباح على الأرض، بينما من يدخلها طاهرًا وسالمًا، سوف أكون حاميه في الآخرة في ساحة الإله العظيم».
وهدّد حكيم الأسرة الثامنة عشرة الأشهر «أمنحتب بن حابو» كل من يقتحم مقبرته أو يعطل شعائرها الأخروية بقائمة من العقوبات مثل: «سوف يفقدون وظائفهم على الأرض، ويرمون في البحر، ويحرمون من الذرية، ولا تُحفر لهم مقبرة أو تقدم لهم قرابين، وسوف تفنى أجسادهم».
وهناك رواية شهيرة من العام الثاني عشر من حكم الإسكندر الرابع (عام 312 ق.م) تقول: «بالنسبة لأي أحد من أي بلد -النوبة وكوش وسوريا- الذي سوف يغير من هذا الكتاب أو يحرّكه، لن يُدفن، ولن يتسلم أية قرابين، ولن يستنشق البخور، ولن يرفع الماء له أي ابن أو ابنة، ولن يذكر اسمه في أي مكان على الأرض، ولن يرى أشعة الشمس».
وحقيقة لا توجد لعنة فراعنة كما يدّعي البعض. وإن كان البعض قد مات، فلم تكن لعنة الفراعنة هي السبب. وقد نفى عالم الآثار الدكتور محرز كمال ذلك، وقال إنه لا توجد لعنة فراعنة ومات في الحال. وحقيقة الأمر أن الدكتور كمال لم يكن في يوم من الأيام عالم آثار فرعونية فلم يحفر داخل المقابر أو المعابد الفرعونية، بل كان واحدًا من المختصين في الفنون الإسلامية؛ لذا فمن غير المنطقي القول إنه مات متأثرًا بلعنة الفراعنة، وإنما مات متأثرًا بأمراض الشيخوخة، فقد كان طاعنًا في السن.
ويحدث الموت المفاجئ للذين يدخلون مقابر الفراعنة من الأثريين نتيجة تحلل المواد العضوية الموجودة داخل المقابر الفرعونية لآلاف السنين والموجودة في القرابين التي حرص المصريون القدماء على اصطحابها معهم في رحلتهم إلى العالم الآخر حتى يفيدوا منها في ذلك العالم الغامض الذي اعتقدوا أنه يشبه عالمهم الأول على الأرض، يحتاج فيه المرء لمأكل ومشرب وملبس، ومن ثم زوّدوا مقابرهم بهذه الأشياء التي تحللت بمضي الوقت، وأنتجت عددًا لا يحصى من الغازات والأبخرة السامة والبكتيريا التي ما إن يتنفسها المرء، حتى يغيب عن الوعي ومن ثم عن الحياة بالتبعية؛ لذا ينصح الأثريون عند افتتاح مقبرة جديدة أول مرة، ولم تكن قد فُتحت من قبل، بأن تترك فترة زمنية مناسبة حتى تتطهر من كل ما بها من مخلفات عضوية ذات غازات وأبخرة سامة مضرة وبكتيريا. لا توجد لعنة فراعنة، وإنما توجد لعنة الهوس بالفراعنة.