للكاتب الدكتور / زياد بشاره أفرام
قصة واقعية اجتماعية
كالعادة من دون أي كلل أو ملل، بل حب وعشق لعملي اليومي، الذي اتلذذ عندما امارسه، وفي خضم الصراع مع الوقت والزبائن معاً! أقدم خدمات صناعية غير مجانية،أبيع سلعًا صناعية، وأقدّم استشاراتٍ إدارية وعملية. لم يكن ذلك مجرد عمل، بل كان أسلوبي في فهم العالم وتحليله، قطعةً قطعة، ونقل تجربتي لمن لا يملك الوقت للوقوع في الأخطاء. هذا ليس كل ما أقوم به خلالالنهار، لكنني أكتفي بشرح بسيط له.
أبدأ نهاري باكراًلأتمكن من إتمام معظم المسؤولية العملية التي على عاتقي، اجزّئ خطة الطريق التي اسلكها كل يوم، وذلك في المناطق التي أزورها على مدار السنة والشهر، وهذا العمل أو السوق امارسه منذ سنة 2013، فالجزءالصعب هو ما يسمى بالأوزاعي وما قبله وبعد، الصعب هو كيفية الوصول والخروج،خضم هذه الصعوبات كانت الأمور تجري على ما يرام، ولا مرة أو حتى لحظة صادفت صعوبة بتعاملي مع الأشخاص وأصحاب العمل.بل كانت الصعوبة هي أمنية من شدة خطورة الوصوللتلك المناطق التي أتواجد بها! إلى أن وجدتحل لها، مع شخص نافذ في تلك المنطقة، وعلمني كيف يجب أن اتصرف في حال حصل معي أي خطب، وذلك لأنه تعرّف عليَّ عن قرب “كيف اتعامل مع الأشخاص، وماذا أقدم من خدمات، وما نوع التجارة التي امارسها” هو شخص محب! احتراماً له لن أذكر اسمه سوى”الحج ع” علاقتي به شبه يومية على ال WhatsApp فهو كان وما يزال يراسلني دائماً بصورة صباحية،حقيقةً كانت رسالته تحفزني لأعاود العمل في تلك المنطقة. كما ذكرت أنفاً، الأشخاص الذين اصادفهم مهذبين مرحين يحترمونني ويقدرون ما أقدم لهم، حتى أنهم كانوا يدفعون ثمن تلك الخدمات!
كانوا ملتزمين معي كالتزام الأم مع أولادها، نعم لهذه المرحلة بالفعل. لم أواجه أية تعقيدات من الناحية المالية مع أي عميل “زبون”.علماً بأن المبالغ كانت تصل إلى أرقام كبيرة أحياناً، كنت ومازلت على ثقة من تلك الناحية، بأنهم سوف يسددون ما يتوجب عليهم! والحمد لله.
مع كل بدايةاسبوع جديد، أرسم خطة طريق للأسبوع كله،فياليوم الأولخط الأوزاعي، أبدأ من منطقة عين الرمانة الشياح،صفير، رويس، حارة حريك، برج البراجنة، منطقة الكوكودي…… بعدها أصل إلى الاوزاعي، ومن ثم خلدة،عرمون،بشامون،شويفات، مفرق الشجرات، حي السلم، البركات والازقة الصغيرة المتفرعة منه. ذكرت تقريبا كل المناطق على ذلك الخط. كنت أقود سيارتي الصغيرة المخصصة لتلك التجارة وهي من نوع بيجوPEUGEOT فضية اللون،وهذه السيارة معروفة بتلك المنطقة ومعظم المناطق التي كنت اتردد إليها، وذلك بحثاً عن لقمة قوت لي ولعائلتي والحمد لله ما زالت الأمور جيدة.
ذلك الاثنين، أول يوم عمل في الأسبوع الواقع في 22 نيسان 2025 وبعد انتهاء الحرب على وطني الحبيب لبنان، لا أحب ولا أرغب أن ادون أي شيء عن تلك الحرب الهمجية الظالمة على أهل الوطن! كانت الساعة قاربت الحادية عشر والأربعة والخمسون دقيقة قبل الظهر، في توقيت بيروت أم الشرائع. انتهيت من أول جزء من خطة السير المعدّ سابقاً، منطقة الكوكودي، تعرجت على طريق فرعية محاذية لطريق المطار، التي لا يوجد عليها أي محل تجاري أم صناعيسوى ذلك الحائط العالي على طول تلك الطريق الذي أقدر طوله 500 متراً تقريباً،الفاصل بين أول جزء من خريطة الطريقومنطقة الأوزاعي.حسبما أعلم أن ما شُيّدَ بداخله ملعب رياضي، وشركة كبيرة للإنشاءات، لكن لا نستطيع رؤية أي شيء داخله.لا يسلكها سوى القليل بسياراتهم أم بعض الشبان على دراجتهم النارية. هناك نقطة يقف بها السائق أحيانا لقضاء حاجته، للأسف، لا يوجد أي مكان خاص لهذا الأمر! رصيف على طول الطريق عريض بعض الشيء غُرس في منتصفه شجرة، أصبحت كبيرة تغطي قسماً منه حيث غرست. توقفت عند تلك الشجرة بعد أن تأكدت من أنه لا يوجد مارة أو أي خرق غير طبيعي، حيث أصبحنا نهاب من الأشخاص الذينيقودون دراجاتهمالنارية.لتدمع عينيَّ على ما يمر به وطني! لا قانون سير ولا حتى أمان ولا أي مقومات حياتية! ابقيت المحرك شغّالاً والمكيف أيضاً لشدة الحر. يلزمني دقيقتين لا أكثر لقضاء حاجتي، لا أدري لماذا فعلت هذا الأمر، مع العلم كنت حينما أصل إلى أي معمل صناعي أو محل تجاري أستأذن منهم لذلك الغرض. لكنني توقفت!
وجهي إلى ذلك الحائط العالي، واقفاًأمام الشجرة المغروسة هناك،وفجأة سمعت ذلك الصوت البشع الدميم، بالعامية:”شو عم تعمل هون” التفت بجزئي الأعلى من جسدي إلى الخلف، لأرى من هو ذلك الشخص ولماذا يسألني هذا السؤال! ألم يلاحظ ما أقوم به. بسطُ يَدي وكأنني أرد له السؤال،”ألم ترى ماذا افعل؟” وتابعتللحظتين لأنتهي، وإذ به يصرخ مجدداً:”شو ما فهمت، بدكَاقتلك هلأ” سحب مسدسه الحربي من على خصره مهدداً. وبدأ يوجه الكلام البذيء الذي لا أحسن أن اكتبه حتى! توجهت إليه محدّقاًبعينيه بشكل مباشر خوفاً منيأنأقدمعلى ردة فعل سلبية، أو أن استفزه بأية نظرة.
بعد أربع أوخمس خطوات، أصبحت أمامه وهو على دراجته النارية، ترجل عنها،أعاد المسدس إلى خاصرته وخطا باتجاهي ليصبح ملاصقاً أمامي، واستمر بتوجيه كلام يشبه شخصه، وعلاالسباب وبعدة طرق ومعاني.
نظرَ إليَّ تلك النظرة المليئة بالغضب الشديد،ليأمرني بالصعود إلى سيارتي، أجبته: بأمرك! هنا حاولت أن أبقى هادئا بينما كنت متوجهاًنحو السيارة لجهة السائق لأصعد. أوقفني بنبرة عالية صائحاً:”أعطيني هويتك يا أخو شر….. بدي اقتلك”. ومن المؤكد كان جوابي له: بأمرك يا معلم. اخرجت محفظتي من جيبي، بعدها جلست على المقعد الأمامي للسائق، وسحبت هويتي ودفتر القيادةاللّذان اضعهما معاً في مغلّف شفاف بلاستيك. سحبت يدي اليسرى ورميت المحفظة إلى الخلف بينما هو يدخل من الجهة الأخرى للسيارة، رآني اضع يدي إلى الخلف. صرخ بأعلى صوته:”شو عم تعمل يا أخو شر….” أدرت رأسي نحوه وكأنني من شدة الخوف مبتسماً! أجبته: لا شيء سوى إنني اتفقد هاتفي المحمول”الموبايل” جنَ جنونه، صائحاً بصوته الدميم:”عطينيهالأخوالشرمو… لهون بسرعة” مرَّت ثانيتين وكأنهما ساعتين من الزمن،اخرجت هاتفي وضعته على لوحة القيادة أمام بالفجوة الموجودة في الأعلى!متابعاً بطلبه مني “وين جزدانك وولي” أي”أين محفظتك أيها الأحمق”. استمر عقلي بتحليل كل ثانية وحركة من تصرفاته البغيضة وما زلت متماسكاً! لم اظهر له خوفي، بل كان الخوف يتملكني بشكل كبير وفظيع، لم ارتبك أمامه ولا لحظة.خطرت ببالي جملة كنا نستعملها أيام الحرب البشعة، التي حصلتببلدي حبيبي لبنان!{حمار وحامل فرد} أي {حمار وعلى خاصرته مسدس حربي}!فكان جوابي: له إنني لا أحمل معي محفظة، بل كل ما أحمله الهوية وذلك الدفتر الخاص بالقيادة.
تملكني الخوف من أنه لم يحصل على محفظتي، وسوف يطلق النار عليَّ وأنا جالسٌ داخلَ السيارة! يا إلهي ماذا أفعل؟ لا شيء لم أملك أي خيار سوى النظر إليهتارة وإلى لوحة القيادة تارةً أخرى. هادئاً مسيطراً نوعاً ما على أعصابي،لكيلاأفقدها وأنهار أمامه كالنعجة! لست عالماً من أين أتتني تلك القوة المزيفة بتلك الحادثة، بل جابهته بالهدوء والروية!
صَعَدَ إلى السيارة من الجهة اليمنى، وجلس على الأوراق والأغراض التي دائما موجودة على المقعد الأيمن، تلك السيارة مخصصة للعمل اليومي، وبداخلها الكثير من الأغراض والأوراق والدفاتروغيرها لزوم العمل.ثار جنونه مجدداً عندما جلس عليهم، ودفعَ بيده ما وجد،وأمرني بمساعدته ليتمكن من الجلوس. طبعاً هكذا حصل! أصبح الآن جالساً بجانبي ومسدسه الحربي بيمناه.رماني بالهوية ووضع دفتر القيادة أمامه، ومن شدة ارتباكي وخوفي لا أعلم كيف وضعت الهوية في جيبي اليمنى! كل تلك الدقائق وتلك الأوامر كانت مترافقةبالسباب من الدرجة الأولى، حقيقةً لا أستطيع أن أكتبها!
هنا أظن هدأ بعض الشيء، وكأن الله لمسعقله وقلبه، وحارسي الشخصي الإلهي هدّأه! لينظر إليَّ ولكن هذه المرة لم تكن نظرة خبيثة أو إجرامية.”حقيقةً” ليقول لي: “لح خليك تفل هل المرة، بس المرة الثانية بدي اقتلك”بما يعني بالفصحى “سوف أسمح لك بالمغادرة هذه المرة، لكن في المرة المقبلة سوف ارديك قتيلاً”.بكل تعجب نظرت إليه وتلك كانت آخر نظرة مني صوبه وكالعادة كان جوابي له: بأمرك يا معلم!
اعاد المسدس إلى خاصرته، وترجل خارج السيارة، وصاح:”رجاع لورى فل”أي”أرجع سيارتك إلى الخلف ويمكنك الذهاب”
لا أدري ماذا حصل ولماذا؟!
لماذا تغيّر هكذا، مع العلم أنهمازال غاضباً وبشده. كنت منتظراً منه الانتقام كونه لم يجد معي شيئاًليسلبه مني.”لم يقتلني”!سوف يطلق النار عليَّ لا محالة، لم أتمكن من فعل أي شيء بالقوة.من المؤكد القوة الإلهية هي من غيّرت الموقف!
وضعت يدي على علبة التروس- السرعات،لأضع وضعية الرجوع للخلف، لم أستطع! بدأت يدي ترتجف وأعصابي تنهار.
“قتلني”!
حاولت مراراً لكن الخوف كان هو سيد الموقف. لم أتمكن. توقف تفكيري لم أعد أفكر ألاأنه كيف أُرْجِع السيارة للخلف!للمغادرة بأمان، وعدم صدم دراجته النارية.نجحت بأخر محاولةقيادة السيارة للخلفلمسافة جداً قصيرة.”قتلني”!توجهت إلى الأمام لأصل إلى الجسر المؤدي نزولاً للمدينة الصناعية والنافعة، “مركز تسجيل السيارات” كماسُمِّيَتْ من زمن بعيد. وصلت إلى تلكالأزقة، قصدت على الفور عربة القهوة الجوالة الصغيرة، دائماًيركنها العامل عليها بتلك الطريق، طلبت منه أن يحضر لي فنجان القهوة أو نسكافيه، تناولت السيجار الرفيعcigarillo الذي يرافقني دائماً، وكوب النسكافيه، أوقفت المحرك، أشعلت السيجار ورشفت من الكوب.
“قتلني”!
لبنان يا حبيبي! لقد سردت لك ما حصل معي ذلك النهار،كانمن المفروض أن يكون نهار عمل عاديّكباقي أيام الأسبوع والسنة.
لمن أواجه كلامي! وأقول “قتلني”! لكنه لم يقتل كبريائي، وأملي بمستقبل جميل لك يا وطني لبنان! من المسؤول عما حصل لي من أذى نفسي وشخصي، أأنت من الذي يتحمل تلك المسؤولية؟ ماذا؟ ومن سوف يرمم ما تكسَّرَ بداخلي، وما تشقق بشعوري تجاهك؟!
سوف تبقى بلد الأرز مهما عصفت الرياح واشتدت الأمطار عليكَ وعليَّ، سوف تبقى منارة للثقافة والعلم والأخلاق! سوف تبقى لي حبيبي مهما حدث معي بداخلك! أنت من أنقذني من قبضة ذلك المتمرد الوحش البغيض!
لبنان حبيبي، الأرزة التي رُسِمَتْ على جبيني حين ولدتُ، أعدك بأنها ستظل شامخة للأبد!
































