بقلم: د. حسين عبد البصير
غريب الفراعنة
هناك البعض من مهاجمي الحضارة المصرية القديمة ممن يمكن اعتبارهم أمثلة واضحة على التطلع إلى الشهرة بأية طريقة، وعندما لم يحققون أحلامهم في مصر، يهاجرون إلى خارج البلاد. ويحاولون تعلم المصريات، ولم يفلحوا في ذلك، فانصرفوا إلى قراءة التاريخ العبراني، وجعلوا من أنفسهم وعاءً لبث سمومهم ضد حضارة وتاريخ مصر الفرعونية من خلال محاولاتهم الدائمة لتزييف التاريخ الفرعوني لصالح التاريخ العبراني. ولهم كتب غريبة تحاول أن تقول إن «يويا»، والد الملكة تي زوجة الملك أمنحتب الثالث، هو سيدنا يوسف عليه السلام، استنادًا إلى تشابه الحروف والأسماء في رأيهم. وهذا كلام غير علمي وينافي الحقيقة تمامًا.
والتاريخ الذي يحاولون كتابته لوضع الأكاذيب به في مصر الفرعونية تاريخ لا يستند إلى أي دليل علمي أثري؛ إذ أنه حين لا توجد مصادر، فلا يوجد تاريخ كما نعلم جميعًا. وأين الأدلة الأثرية التي تدعم ما يقول؟ ولا يصح أبدًا أن نضع التاريخ الفرعوني والآثار في مقارنة مع الكتب السماوية المقدسة وتاريخ الأديان؛ لأننا في الآثار نعتمد على المصادر الأثرية وعلى علم متغير حسبما تفرضه علينا الاكتشافات والدراسات الأثرية الحديثة التي تحدث باستمرار وتغير من معلوماتنا، أما الكتب الدينية فهي كتب مقدسة نحترمها ونجلها. وهناك مدرسة كبيرة من العلماء في التاريخ التوراتي لا يعترف علماؤها بما جاء في التوراة الا ما بما أقرته الحفائر الأثرية. ويقومون البعض، الذين ليس لهم أية علاقة بالآثار المصرية القديمة ولا يعرفون اللغة المصرية القديمة، بمحاولات زائفة لبث السموم التي تحاول إيجاد اليهود في مصر الفرعونية، ويدعون بدون أي دليل علمي أو أثري أن نبي الله موسي عليه السلام هو سيدنا أخناتون!! وهناك فرق كبير بين الملك أخناتون الذي حكم في النصف الثاني من الأسرة الثامنة عشرة في عصر الدولة الحديثة، وفرعون موسي الذي لا توجد لدينا أية دلائل أثرية على وجوده في مصر الفرعونية. وهذه الادعاءات الذي يبثها متأثرة بكتابات بعض العلماء اليهود مثل «سيجموند فرويد» الذي كتب كتابًا عن موسى وأخناتون وقال إن موسى تلقى الدين عن أخناتون وحاول إثبات أن موسى مصري وليس يهوديًا. وهذا كلام غريب وغير منطقي وغير علمي.
ويعتبر أولئك الأدعياء امتدادًا لذلك الفكر الذي يريد تشويه هذه الحضارة العظيمة ويثبت أن هؤلاء اليهود كان لهم دور في الحضارة الفرعونية، وفي هذه الحالة يريدون نزع عظمة الحضارة الفرعونية ويدخلون اليهود في تاريخ مصر الذين لم يكن لهم دور في الحضارة الفرعونية على الإطلاق. وكتبوا العديد من الكتب والتي يفخرون دومًا أنها تباع بشكل كبير؛ لأنهم يؤكدون على تلك التخاريف وأن الفراعنة جميعهم يهود فتُباع تلك الكتب بشكل كبير؛ لأنهم لا يستندون إلى أي دليل علمي ويخدمون فكرًا معينًا يريد سرقة أعز ما تملك مصر وهو تاريخها الماضي العريق.
ولا يوجد أي ذكر لوجود اليهود في مصر الفرعونية اللهم إلا الذكر الوحيد لهم على لوحة الملك «مرنبتاح»، ابن الملك رمسيس الثاني، والذي سجل عليها ما معناه أن «بني إسرائيل قد أبيدت بذرتها». وكتب المصري القديم مخصص إسرائيل بمخصص القبيلة وليس المدينة. وهذا يعني أن أولئك القوم كانوا جماعة من الرحل ولم يكن لهم وجود جغرافي محدد. وأكدت اكتشافات مقابر وتجمعات العمال بناة الأهرام أنه لا علاقة لليهود ببناء الأهرامات، وأن المصريين القدماء هم الذين بنوا الأهرامات، فضلاً عن بردية وادي الجرف والعديد من الأدلة التي تثبت أن الحضارة المصرية القديمة بناها الفراعنة. وقال أيضًا البعض إن المسيح هو توت عنخ آمون. وقالوا أيضًا إن النبي داود «ديفيد» هو تحتمس الثالث!!! وأتسأل من أين جاءوا بهذه المعلومات التي لا تمت للعلم ولا للحقيقة ولا للآثار بأية صلة؟!!
رحمة بالحضارة المصرية من المتربصين بها خصوصًا من بعض أبنائها الذين يحاولون تشويه صورتها الخالدة. وسوف تبقى مصر القديمة عظيمة رغم كيد الكائدين.
عدو الفراعنة
إن هناك شخصًا آخر دخيلاً على الآثار المصرية، وليس متخصصًا في المصريات، يهاجم دومًا، ويقول إن البعض قضوا معظم حياتهم المهنية بحثًا عن حضارة أطلانتس المفقودة في هضبة الجيزة. ويتهمون البعض، ظلمًا وبهتانًا وبالباطل، بالفشل في العثور على رواق السجلات أسفل تمثال «أبو الهول» العظيم أو في غرفة سرية داخل الهرم الأكبر!!! وذلك بسبب أن البعض وقف ضد مشروعات السيد المذكور لتهويد التاريخ الفرعوني وتدمير الآثار المصرية والعبث بها، من خلال رغبة هذا المذكور الملحة لإدخال شخصيات توارتية، ليس لها وجود في مصر القديمة، في تاريخ مصر القديمة.
إن جماعة إدجار كيسي هي أعدى أعداء الحضارة المصرية القديمة، وإن أغلبية علماء الآثار يقفون بالقوة في وجه جماعة إدجار كيسي ومشروعاتهم التي تريد تدمير الآثار المصرية على أيدي مجموعة من الهواة والمغامرين. ويعد العلماء حجر عثرة في سبيل تحقيق أحلامهم بالحفر تحت تمثال «أبو الهول» العظيم للكشف عن سجلات حضارة أطلنتس التي يزعمون، بكل جهل وغرور، وجودها تحت تمثال «أبو الهول». ومن المعروف علميًا أن تمثال «أبو الهول» العظيم صخرة صماء لا تخفي أسفلها أي شيء على الإطلاق. وقامت جامعة القاهرة بالحفر تحت التمثال، ولم تجد تحته أية أشياء مما يدعي وجودها هؤلاء الهواة المغامرون.
ولم تقم مصر باحتفالية بالألفية الثالثة في الجيزة لتأكيد لنبوءة إدجار كيسي، كما يزعم بعض الأدعياء. ولم يتم في هذه الاحتفالية تثبيت هريم ذهبي فوق قمة الهرم الأكبر، ولم يتم الإعلان عن بدء عصر جديد تصير فيه حضارة المصريين القدماء من عمل حكماء أطلنتس كما يدعي البعض. وهذا كله لم يحدث إطلاقًا؛ إذ أنني كنت أعمل مفتش آثار أهرام الجيزة في ذلك التاريخ، وكنت معاصرًا وشاهدًا على هذا الاحتفال الخاص بالاحتفال بدخول مصر عصر الألفية الثالثة من هضبة الأهرام، مثلما قامت كل دول العالم بالاحتفال بهذا الحدث. وكلام البعض كلام مغرض وينافي الحقيقة والعلم تمامًا.
خاتمة: ماذا يبقى من مصر القديمة؟
سوف يظل سحر مصر وآثارها باقيًا إلى أن يرث الله الأرض وما عليها. مصر القديمة هي التي أبدعت وعلمت العالم، وأهدت البشرية إلى الحق والخير والجمال وكل القيم والأعمال الطيبة في الدنيا والآخرة في ذلك الزمن البعيد من عمر الإنسانية. لقد عرف المصري القديم العالم، وخبره جيدًا، وأعني عالمه الذي كان يعيش فيه، والذي كان يعرف كل تفاصيله بدقة بالغة، فأبدع لنا تلك الحضارة المدهشة التي كانت وما تزال وسوف تظل تبهرنا بآثارها الجميلة وتاريخها العظيم وقيمها الخالدة وأفكارها الخلابة وأخلاقياتها السامية.
جالت الفكرة في عقل المصري القديم، وبناءً عليها أبدع عالمه الشامل الكامل؛ ذلك العالم المدهش من السحر والجمال والغموض المبني على أسس ثابتة من القيم والمعايير الأخلاقية والفكرية والجمالية والعملية. لقد قدس الإنسان المصري القديم الإله خالق الكون في عليائه. وأقام له المعابد؛ كي يقدم له فيها آيات الشكر وقرابين العرفان على كل ما أمده به من كل الأشياء الطيبة في حياته الأولى على الأرض، وكذلك بسبب ما كان يطمح إليه من الحصول على رضاه؛ كي يدخل «حقول الإيارو» أو الجنة في العالم الآخر في مصر القديمة.
وحمد المصري القديم الإله في معابده في طول البلاد وعرضها؛ بسبب ما قدَّمه له من حماية ودعم ونصر مبين. وقدم القرابين له في معابده؛ كي يشكره على ما أولاه له من رعاية وحماية. وحارب الملوك المصريين القدماء تحت راية الإله الخالق العظيم. ونسبوا النصر الذي حققوه إلى الدعم الكبير الذي قدمه لهم في أرض المعارك. وأسَّس المصري القديم أول امبراطورية في التاريخ بعد تعرض مصر لمحنة احتلال الهكسوس القاسية. وجلبوا خيرات البلاد التي فتحوها إلى معابد الإله وكهنته.
وصارت المعابد والمقابر تُبنى باستمرار الواحد تلو الآخر. وصارت تضيف سطرًا جديدًا وجميلاً في تاريخ مصر القديمة والبشرية جمعاء. وصارت آثار المصريين القدماء أكثر جمالاً وغموضًا وأشد سحرًا. وأخذت فكرة البناء والتشييد تصير على عقول كل الملوك المصريين القدماء. وصارت مصر عارمة بكل الأنواع من كل الآثار الجميلة سواء أكانت آثارًا تخص العالم الآخر، مثل المقابر أو المعابد الجنائزية، أو تخص الحياة الدنيا على الأرض مثل معابد الآلهة والمدن والبيوت والتجمعات السكنية وأماكن الأنشطة التجارية والصناعية.
كانت مصر القديمة في الأصل فكرة، ثم تحولت الفكرة إلى خطط ومشروعات تم تنفيذ بعضها، ولم يتم إكمال بعضها، أو تم إهمال أو تدمير بعضها. وقبل أن يصل بنا الانبهار بآثار مصر القديمة غايته، كان انبهار الرحالة الكلاسيكيين على أشده. وكتبوا عنها ما جعل منها أعجوبة الأعاجيب في كل زمان ومكان.
كانت قيم الصدق والدقة والاتقان هي المسيطرة على عقول المصريين القدماء وهم يخطون بالقلم من أجل البدء في تنفيذ مشروعاتهم العديدة سواء في الفكر أو في الفن أو في العمارة أو في العلم أو في الفلك أو الحساب أو في الهندسة أو في الأخلاق والضمير والأدب والقيم، أو في غيرها الكثير.
هذه هي مصر القديمة ببساطة. وهي هذه هي فكرتها. وهذه هي قيمها التي روت العالم كله وما يزال العالم كله يرتوي من كل ما مصري قديم.
لماذا مصر القديمة؟
وماذا يتبقى لنا من عالم المصريين القدماء حقًا وصدقًا؟
وماذا يتبقى من مصر القديمة؟
بعد رحلة أي فرد منا في عوالم مصر القديمة، سواء طالت أم قصرت الرحلة، ماذا يبقى لنا من أسرار مصر المصريين القدماء الكثيرة؟ وبعد الطواف بين تاريخ وسير وأعمال أجدادنا الفراعنة العظام، ماذا يتضح لنا؟
ولماذا ما تزال مصر القديمة تسحر العالم كله؟ ولماذا ما تزال كنوز المصريين القدماء تبهر الأبصار والعقول وتخطف القلوب؟ ولماذا ما تزال مصر القديمة تسكن تحت جلودنا، برصيدها الحضاري العريق وتراثها الثقافي الفريد؟
إن الحقيقة هي أن ما بقي من مصر القديمة، هو كنز العالم أجمع أبد الأبدين. إنه لهو السحر المبين والغموض والجمال والمتعة والإعجاب والدهشة والعديد من القيم الإيجابية التي تعلي من شأن الإنسان، والتي تعلم العالم منها كل شيء، عندما كانت مصر تبدع الحضارة للعالم كله، وكانت الحضارة تسكن أرض مصر، وعندما كانت مصر تبدع إبداعًا مصريًا خالصًا، بينما كان العالم كله يعيش حياة مزرية في جنبات وظلمات الكهوف، كهوف الجهل والظلام والتخلف وعدم المعرفة.
بقي من مصر القديمة أنها كانت مصباح العالم المنير حين كان الظلام يسود العالم أجمع. بقى أنها مصر التي أضاءت العالم بنورها الحضاري، وأضاء العالم بنورها المعرفي والإنساني الرفيع بعد فترات طويلة من تخبطه في غياهب الظلام وبراثن التخلف.
وأجمل ما بقي من مصر القديمة ليس آثارها الجميلة فقط، ولكن قيمها الإنسانية ومبادئها الراقية القائمة على حب التسامح، والتمسك بالسلام، وعشق الحق والصدق، وإعلاء شأن العدالة، والتبتل في محراب الجمال والإبداع والاتقان، وحب الخير، وتقديس وعشق وإتقان وإجادة وإبداع العمل، وتمجيد الإنسان والرفع من شأنه والاعتراف به كمبدع أصيل وصاحب حقيق ومفجر عظيم لهذه الحضارة الإنسانية الرفيعة المستوى التي لا تدانيها حضارة في العالم القديم كله في الاهتمام بالإنسان وبتعليمه كل القيم الرفيعة والأصيلة والطيبة ودفعه للأمام دومًا وأبدًا.
إن سر وسحر مصر القديمة سوف يظلان ما دام هناك عقل يفكر وقلب ينبض وأذن ترى وعين تسمع شأنها في ذلك شأن السحر الذي انفتح على العالم وغمر عبيره عقولنا وقلوبنا وأبصارنا جميعًا عبر كل زمان وعبر كل مكان، دون فرق، عندما نجح العبقري والعلامة الفرنسي جان-فرانسوا شامبليون في عام 1822 ميلادية في كشف وفك رموز اللغة المصرية القديمة، وإطلاع العالم على سحر وأسرار المصريين القدماء بشكل علمي مؤِّسسًا بذلك علم المصريات البديع الجميل المثير الشيق والشائك في الوقت نفسه.
لقد حكم ملوك مصر القديمة العالم كله بالعلم والإيمان والعدل والحق والرحمة والمحبة والسلام. ومنذ ذلك الحين، ونحن ننعم جميعًا بسحر مصر القديمة الذي لا يُقاوم.
إنه سحر المصريين القدماء. وهو السحر الذي لا ينتهي. وسوف يظل أبد الدهر بهذا القدر من الجلال والجمال. وسوف يظل يهبنا السعادة والمتعة اللتين لا تقاومان.
فتحية حب وتقدير وإعجاب لمصر القديمة الغالية وسحرها وأسرارها وحضارتها الساحرة التي لا ينضب جمالها وغموضها وعشقها وروعتها دومًا أبدًا.
وسوف تظل أسرار المصريين القدماء وآثارهم تبهرنا وتبهر الجميع في كل زمان وفي كل مكان.
وهذا وغيره الكثير هو ما بقي وسوف يبقى من مصر القديمة العظيمة والقديرة والجميلة والمبدعة.
مصر هي التي علمت العالم.
والله من وراء القصد. والله هو الموفق والمستعان. إنه نعم المولى ونعم النصير.
تمت