عامل الاستقبال جعلني أنتظر دوري. كنت متلهفا لرؤيتها. رائحة عطر نسائي لفحت أنفي وباب عيادتها يفتح تخرج امرأة برفقة ممرضة.
مرت ساعة وعدة وجوه أتت وغادرت. ذنبي أني أتيت دون موعد.
صوت الممرضة ناعم جداً بصعوبة سمعتها وهي تناديني مبتسمة ممسكة بمقبض الباب وجسدها خلفه.
وقفت أعد خطواتي نحو الحجرة. مددت رأسي محيياً المرضة أولا ومن ثم الطبيبة التي أتيت لزيارتها. فقط أخبرت عاملة الاستقبال أنها زيارة خاصة من صديق قديم وتركت اسمي.
وقفت وحيتني أمام مكتبها ومدت يدها تدعوني للجلوس بينما جلست في الكرسي المقابل. كانت الممرضة جالسة على كرسي قرب النافذة خلف شاشة حاسوب محمول. تبدو منهمكة في عمل ما.
حاولت جمع أفكاري وأن أقدم لها مدخلا لحديث آمل أن يكون جديا لكلينا. ابتسامتها الهادئة ونظراتها الحانية تشجعاني على أن آتي بما يجعل الوقت مجديا في هذا اللقاء.
– سيدتي أنا جورج..
– صديق من أسميته (هو)، تحدثنا عبر الهاتف سابقاً عدة مرات، نعم أذكرك ..أتيت لتعيدنا لعلاقتنا م
عاً؟
– …نعم..بشكل أو بآخر!
– سوف أختصر عليك المشوار،(إنه هو) مجرد بحث علمي، قمت به على مدى أربعة أعوام. بحث قمت به بمعاونة مركز أبحاث علوم إنسانية. دوري أن أجد ظاهرة غريبة أعايشها وأدون ملاحاظاتي لتأثيرها فيمن يحملها ومن حوله.
– إنه هو مجرد (حالة) لبحث سيدتي؟
– نعم هو كذلك!
– خلت أن الأمر أكثر من هذا!
– هذا ما خلته أنت..وربما هو… تركت له النهاية بالشكل الذي يستحقه.كان جداً مناسباً لي لأكمل مشواري المهني بحصيلة علمية ومعرفية جيدة.
– تتعلق به؟
– نعم.
– وماذا عن العواطف والحياة التي..
– استاذ جورج، (إنه هو) بحث شهي جداً استمتعت بكل تفاصيله. هناك عدة حالات نقوم بدراستها نحن عدد كبير من الباحثين والمتخصصين . ندرس بعض الأمور التي تساعدنا على فهم المجتمعات الحديثة وما يفعله وجود ظواهر طبية وسلوكية مغايرة للعادة أي الأمور النادرة سلباً وإيجاباً. (إنه هو) في البدء كان تعرفي عليه إنسانيا بحتا وبعد نقاشات وحوارات في ذات اللقاء الأول حسمت أمري!
صمتت ونظرت إلي غامزة بعينها ليمنى وأكملت:
– حين غادرنا السفينة كنت وصلت لقناعة بأنه حالة مثالية لن أفرط فيها.
– فتم مرادك.
– بشكل جداً مرضي.
– لا ترغبين فيه كإنسان في حياتك؟
– لا بالطبع ! لم يكن أبداً هدفاً لي سوى أنه (حالة جيدة للدراسة). كلما أخبرني بأمر كنت أبحث عن تفاصيل الحقيقة ما أمكن وأعود إليه مكملة مشواري بشكل يستمر بتلقائية ليتكشف لي بتفاصيله أكثر.
– صديقي رجل طيب. أعرفه لسنوات طويلة. هو إنسان سيدتي، كما جميعنا. به جوانب إيجابية وأخرى سلبية.
– نعم هذا بالفعل ما يجب أن يكون عليه ولكنه يغلب عليه طابع الأنانية والكذب أكثر من أي شيء آخر. هذه صفات لا تليق بشخص متحضر يعيش في مجتمع يحتويه ويقدم له أسباب السعادة والأمان.
– هذه نظرة إيجابية ومثالية عن المجتمع الذي حوله وهناك ظلم له بشكل واضح!
– لك أن تدافع عنه بعواطفك ولنا أن نلتزم الموضوعية والحيادية ما أمكن. إنه شخص موهوم بأشياء غير حقيقية، له عالم من الهذيان وبعض العلل النفسية، يجيد الكذب بشكل مذهل ويتمتع بأنانية عالية كما قلت لك. إن أمر قلبه ليس بمرضي أبداً هو مجرد حالة نادرة، هناك كائنات ليس لديها قلب بالمعنى المتعارف عليه. فمثلاً يوجد لنوع من العناكب عضلة في الساق تؤدي مهمة القلب. وحتى (هو) لديه عضلة في وسط تجويفه الصدري تؤدي مهمة القلب. هذا الأمر محسوم منذ البدء وتحمله التقارير الطبية.
لاحظت أن الممرضة تكتب بالتوازي أثناء حديثنا. اعتدلت مضيفتي في جلستها تأكدت من إسناد ظهرها إلى الكرسي تماماً. أكملت مبتسمة:
– لا تحسب (أنه هو) حالة دراسة لأمر قلبه بل للأسف بل لعلته في تفكيره وسلوكه.
– صديقي ليس بهذا السوء!
– أثناء علاقتي به لم يمض ليلة بمفرده، فهناك دائماً رفيقة ما يبثها الأوهام ويستغلها بشكل أو بآخر لتحقيق مآربه المادية والمعنوية. وفي الصباح يتباكى شاكياً من الوحدة والعزلة وهموم كاذبة، هناك عدد من الباحثين والخبراء عاونوني في دراستي وتحليلاتي لحالته.
– أنت …أنت حاقدة عليه ليس إلا!
– (ضاحكة في عذوبة) هل تدرك معنى التفاني والجدية في العمل؟ هل رأيت الممثلين كيف يجيدون أدوارهم لإقناع جمهورهم بالشخصية التي يؤدون؟ كل ذلك من متطلبات عملي. إنهاتجربة بين الواقعية الاجتماعية والجدية المهنية وكذلك أهداف غير معلنة. تجردت تماماً وكنت صادقة معه في كل شيء، عدا أنه مجرد حالة للبحث أختبرها بتفاصيلها.
– هل لي أن أطلع على هذا البحث ؟
– هو ملك لمركز الأبحاث ولا يجوز نشره للعامة. ربما تواصلت معهم، بعض اللوائح عليك المرور بها وتوقع على بعض الشروط. من ثم إن وجدوا مصداقيتك فيمكنك أن ترى التفاصيل والحيثيات عن حالة (إنه هو).
صمتت كمن استدرك أمراً وواصلت قائلة:
– بعض الأوراق التي قام بتوقيعها في المشفى الأول الذي احتجز به بعد اكتشاف حالته الطبية النادرة، كانت تحتوي على تخويل منه بإجراء أبحاث عليه كيفما يتوافق مع متطلبات العلم والمعرفة. مركز الأبحاث وطني ويتعاون مع مراكز دولية لذا هناك شفافية وموضوعية في كل ما يعرض قدر المستطاع لخير البشرية أو على الأقل تدوين وإيصال أفضل ما لدينا في العلوم الإنسانية لمن يأتون بعدنا ليروا كيف كانت عليه حياتنا.
– كم وماذا جنيت من هذا البحث ؟!
– لا شيء سوى المعرفة والعلم. وفي هذا متعة لا تضاهى!
– لا أصدق!
– لقد توفرت لصديقك كل الأسباب ليكون صادقاً وأميناً ولكنه آثر أن لا يكون! كان هناك في مرحلة دراستي له معطيات مثالية ليكون نزيهاً في تواصله ….لم يكن إلا تلك الذات الأنانية مرتدياً أقنعة الضحية تارة وتارة الاكتئاب..
– هل لديك، أعني لديكم تسجيلات لكل ذلك؟
– هناك دوماً ما يثبت الحالة بوقائعها نعم، قدر المستطاع بشكل علمي وموضوعي. هناك مراحل سابقة لم أشهدها معه، كان يخبرني عنها مثل صداقاته وحياته قبل اكتشاف حالته، عاوننا عدد ممن كانوا حوله لتجميع وقائع ومعلومات. لا نقول كلها ولكن معظمها أظهر الكثير مما كان تنطوي عليه شخصيته وأسلوب تفكيره وسلوكه. كان يموهكم كأصدقاء بشكل لم تشعروا بهليبدوا فقط ذاك البريء ليحقق كل ما يشاء.
– إنه أنبل الأصدقاء! هذا ما أعرفه عنه…(غاضباً) وأنتم من تجردتم من الإنسانية لإخضاعه لتجاربكم اللا إنسانية هذه!
– أتفهم رد فعلك أستاذ جورج، أتفهم رأيك هذا. صديقك بحق مادة مثالية للبحث والدراسة وستوقن بذلك حين تقرأ دراستنا عنه، تلك الفتاة التي برفقته الآن، زميلة في مركز الأبحاث أيضاً تركتها لتكمل عني مرحلة أخرى من البحث في حالة (إنه هو). فتاة نشطة تقوم بتزويدنا بمعلومات جيدة عن سير حالته. ليس هذا فحسب بل كل سكان الجبل حوله!
– هذا عمل غير إنساني، اقتحمتم حريته الشخصية بشكل مريع، لم؟!
– قبل أن تطلق الاتهام آمل أن تجد طريقك للمركز والاطلاع على الوثائق. بعدها ستدرك من وما هو الإنساني وغيرالإنساني. صديقك أوتي كل أسباب الأمان وعومل وكأنه ملك متوج ومع ذلك ارتضى لنفسه أن يكون منافقاً وأنانياً لأقصى الدرجات. لا تأخذك العاطفة فكر وتأمل! انظر لـ…
– قاطعها
– لا أقبل ذلك في صديقي!
– مهلاً أؤكد لك الوثائق متوفرة، لو آمنت بأهمية ما نقوم به لخير الفرد في المجتمع والبشرية لأسهمت بدورك معنا. التحضر الحقيقي سلوك وتعامل وليس الانتهازية وهدم القيم والمبادئ ….(إنه هو) مشروع غاية في الأهمية في تطوير مفهومنا للتعاطي مع الفطرة السليمة ونبذ السلوك السلبي…
وقفت قبل أن تكمل حديثها غاضباً ومصدوماً هرولت خارج المبنى. يلحقني صدى صوتها مردداً (إنه هو) وجدتني مترنحاً تبتلعني زحمة طرقات المدينة، قلب من سراب يتخلله دخان.
* فصل من رواية «إنه هو» للكاتبة السودانية آن الصافي، صادرة عن دار ثقافة للنشر والتوزيع (2017)، وتنشر بموافقة المؤلفة ودار النشر.
































