قصة قصيرة بقلم : سوسن شمعون
توفي والده وهو في سنٍ صغيرة ليعيش مع أخويه في بيت أخواله و كانت أمه ساذجةً في السلوك و الكلام ولم تراعي مسألة تنشأت أولادها على أسس تربوية صحيحة و إنسانية , ولم تهتم برفع مستواهم النفسي و العقلي , كان أوسطهم هذا الطفل المدعو أيمن و الذي يراه الجميع دائم الابتسامة و الخجل بسبب أو بدون سبب فراق لأحدهم مناداته بالغبي و جرت هذه العادة على لسان باقي أقاربه وهو لم يعي هذه الكلمة لكنه أدركها كشتيمة عندما تُقال بنبرةٍ حادة , مع الوقت دخل أيمن المدرسة و حاول جاهداً بطريقته العفوية التأقلم مع أقرانه لكنه و لقلة كلامه و تردده عانى نفوراً من الجميع حتى من أساتذته . لم يستطع الصمود لوقتٍ طويل هناك و كان الطلاب آنذاك يرمون حقيبته المدرسية في سلة المهملات و يمزقون دفاتره و كتبه وهو لشدة خوفه لم يخبر أحداً بما يجري له , و انسحب بهدوء من مقاعد الدراسة ليلقى توبيخ و لوم الأهل قائلين أنه أبله ولا يصلح لشيء في هذه الحياة , بقيت تلك الصفة تلازمه لسنوات كان يعمل فيها أجيراً لأحد معلمي الصحية الذي كان يضربه متى شاء, كان أيمن يخشى أن يقول أنه بات يفهم جيداً معنى تلك الصفة و يتألم ممن يناديه بها , لم يكن أهله يعطونه الحق في الكلام أو الإنصات له ولم يشجعوه أو يثنوا عليه يوماً وهو لم يسمع منهم سوى عبارات تحطمه و تثبت قلة شأنه أمام غيره , كان يخاطب نفسه في خلوته مراراً : لماذا هم يجزمون أنني غبي وهل أنا أحمقُ حقاً وعديم الفائدة و النفع , إذاً لماذا أعيش. مرت السنين و شب أيمن عن الطوق و بقي يردد في ذهنه هذه الأسئلة دون أن يرى لها جواباً شافياً ,و بقي ذلك الكتوم والخجول, و بقيت أمه تهينه أمام الناس تاركةً المجال لهم لمزيد من التثبيط لهذا الفتى , عندما صار أيمن في فورة الشباب عصفت في بلاده الحرب فهرب أخوه الكبير تاركاً إياه مع أخته و أمهم يواجهون قسوة الأيام وهولها , أمه التي لم يبقى لها من سندٍ سوى هذا التعيس الذي يعتريه في ساعات احتدام القتال فزعٌ كبير يجعله يختبئ داخل خزانة ثيابه كالفأر فتناديه طالبةً منه أن يلجأ بهم لمكانٍ آمن بعد أن تخلى عنهم الجميع في الأوقات الحرجة , لكنه يلوذ بالصمت ولا يجيبها , حتى أتى ذلك اليوم الذي انهالت به القذائف على بيتهم و فر أيمن كعادته إلى الخزانة و لم تستطع الأم و الأخت الصغرى البقاء بسبب حريقٍ اشعل منزلهم و خرجتا تحت وابل الرصاص و هما تناديان أيمن أن يخرج مسرعاً و بقي هو في خزانته يردّ بيأس : أنا غبي و جبان هكذا علمتموني ولن أستطيع الخروج والمساعدة , سمعت الأم كلام ابنها و شعرت بصفعة الضمير لحظتها و كأن نفسها تقول لها هذه نتيجة تربيتك و تثبيطك لأبنائك , ففي الوقت الذي احتاجتهم فيه لم تجدهم بجانبها , أخذت تركض وهي تمسك بيد ابنتها وتشق طريقها عبر دخان الحرائق و أزيز الرصاص و تصرخ على أيمن الذي بقي في تلك الخزانة ولم يخرج. أيمن أنت لست غبياً أو أحمقاً, إن مجتمعك الذي رسّخ ببالك هذه الصورة هو المدان على نهايتك وعلى حياتك المقيتة, مجتمعك هو الغبي والأحمق, هو القاتل لنفسك و روحك قبل جسدك يا بني. هو حبس نفسه في خزانة الغرور والتعالي و الكبرياء المزيف, هو المذنب الأول. -كم من أيمن موجودون بيننا يحتاجون لعطف و حب و اهتمام و نحن نتلذذ بجلد أرواحهم و تحقيرهم و إقناعهم أنهم لا شيء و نحن كل شيء , لم نفكر بمشاعرهم ولا بنتيجة كبتهم , لم نفكر أن هؤلاء منا , ومعنا سيبنون الوطن الذي يقوم على نفوسٍ سليمة لا مريضة وعلى عمل و إنجازات جميع الأفراد لا على جهد أو مجد فردٍ واحد. و أنتم أيها السادة يا تُرى في أي خزانةٍ حبستم أرواحكم و أولادكم, أهي خزانة الحماقة أم التردد أم الخوف أم خزانة الفقر, هل هي خزانة التسلط الأعمى أم التكبر والغرور ؟ أعتقوا أنفسكم و أطلقوا أبنائكم من تلك الخزانة أياً كانت كي لا تندموا يوم لا ينفع الندم.
































