بقلم: علي عبيد الهاملي
كاتب وإعلامي إماراتي
من منّا لم يكبُر على مطاردات «توم أند جيري»؟ من منّا لم تملأ مسلسلات «زينة ونحول» و»عدنان ولينا» مساءات أطفاله البريئة؟ من منّا لم ينتظر بفارغ الصبر شارة البداية لتلك المسلسلات التي كانت تحمل إلينا عالماً من الخيال، لا بالرسومات وحدها، بل بالروح التي رسمها فنانٌ خلف الشاشة، يضع في كل خطٍّ وابتسامةٍ شيئاً من قلبه؟
اليوم، ونحن نعيش زمن الذكاء الاصطناعي، يبدو أن تلك الذاكرة الجميلة تواجه تهديدًا غير مسبوق. فبعد أن كانت الموهبة والريشة هما الأساس، صار «الكود» و»الخوارزم» شريكين في عملية الخلق الفني. كأن السؤال الذي طرحه التقرير الذي نُشِر قبل أيامٍ «هل ينهي الذكاء الاصطناعي حقبة رسامي الرسوم المتحركة؟» لم يعد افتراضاً مستقبليّاً، بل واقعاً يطرق أبواب الأستوديوهات حول العالم.
قبل ثلاثة أعوامٍ، تأسس في فرنسا أستوديو «أنيماج» ليكون مِنْ أوائل الذين دمجوا الذكاء الاصطناعي في صناعة الرسوم المتحركة. يستند الأستوديو إلى ما يسمى المحفزات، وهي أوامر نصية توجّه الذكاء الاصطناعي لإنتاج الصورة المطلوبة. بدل أن يرسم الفنان المشهد بيده، يصفه بالكلمات فيتولّى البرنامج المهمة، ثم يتدخّل الإنسان بعد ذلك للتنقيح والتحسين. من منظورٍ إداريٍّ، الفكرة مغريةٌ، فهي تحمل سرعةٌ في التنفيذ، وتكلفةٌ أقل، وإمكانيةَ إنتاجِ مشاهد ضخمةٍ في وقتٍ قياسي. لكن السؤال الإنساني المؤرق هو: أين سيذهب أولئك الفنانون الذين علّمونا كيف تتحرك المشاعر بخطٍ صغيرٍ فوق وجه شخصيةٍ كرتونيةٍ؟
ما يزيد القلق أن كثيرًا من هذه الأنظمة تأخذ من أعمالٍ قديمةٍ موجودةٍ على الإنترنت من دون إذن أصحابها. هذا يعني أن الخوارزمية التي تُنتج اليوم رسومًا جديدةً قد تكون استندت إلى آلاف اللوحات التي أبدعها رسامون على مدى عقودٍ من الزمن. أي أن الذكاء الاصطناعي لا يبتكر من العدم، بل يعيد تركيب ذاكرة الفن البشري بطريقةٍ ميكانيكيةٍ باردة. صحيحٌ أن الذكاء الاصطناعي يفتح أمام المبدعين آفاقًا جديدةً، إذ يمكنه أن يوفّر الوقت في إعداد الرسومات الأساسية، ويترك للفنان دور الإبداع والإشراف، إلا أن الخطر يكمن في أن يتحوّل هذا المساعد إلى بديل. ففي أستوديوهات صغيرة، قد يُغري الأمر المستثمرين بالاستغناء عن الرسامين والاكتفاء بالذكاء الاصطناعي لتقليل الكلفة، ما يعني خسارة وظائف كثيرة، وتحويل الفن إلى مُنتَجٍ رقميٍّ بلا قلب. ومع ذلك، يرى بعض المبدعين أن الذكاء الاصطناعي ليس عدوًّا للفن، بل فرصةً لتجديده، شريطة أن يُستخدم بأخلاقٍ واحترامٍ للحقوق وللروح التي تصنع الفرق بين اللوحة والصورة.
حين ننظر إلى ما تصنعه التقنيات الجديدة، لا نستطيع أن نتجاهل أن الفن الكرتوني لم يكن يومًا مجرد ترفيهٍ وتسليةٍ للأطفال. لقد كان مدرسةً في المشاعر والقيم والجمال. من «هايدي» تعلّمنا الحنين، ومن «عدنان ولينا» تعلمنا الأمل، ومن «جريندايزر» تعلمنا البطولة. هذه الشخصيات لم تكن مجرد خطوطٍ وألوان، بل كانت جزءًا من وعينا الجمعي، رسائل تربويةً مغلّفةً بالضحك والخيال. الذكاء الاصطناعي يمكن أن يعيد رسم تلك الشخصيات بدقةٍ مدهشةٍ، لكنه لا يستطيع أن يعيد إحساسنا بها. قد يصنع نسخةً مطابقةً من زينة ونحول بأصوات، لكنها لن تمتلك تلك البراءة التي امتلكتها الأصوات التي غنّت مقدمات تلك المسلسلات، ولا أصوات الممثلين الذين أدوا أدوار تلك الشخصيات الكرتونية التي احتلت مكانها في ذاكرة الطفولة المبكرة.
ربما لا يمكننا إيقاف الموجة، لكن يمكننا أن نختار كيف نركبها. الحل ليس في محاربة الذكاء الاصطناعي، بل في إعادة تعريف دور الفنان داخله. فكما لم تُلغِ الكاميرا فنّ الرسم، وكما لم تُلغِ الطابعة فنّ الكتابة، لن يُلغي الذكاء الاصطناعي فنّ الرسوم المتحركة، بل سيغيّر طريقته. علينا أن نحافظ على روح الإنسان في كل ما ننتجه، وأن نُدرّب أجيالاً جديدة من الفنانين على تقبّل التقنية لا كخطرٍ يهدد الوظائف، بل كأداةٍ بيد المبدع، وأن نذكّرهم أن «توم أند جيري» وغيرهما من أبطال الرسوم المتحركة لم يعيشوا كل هذه العقود لأنهم كانوا رسومًا فقط، بل لأن بينهم قلوباً وأرواحاً وضحكاتٍ خُلقت بالحب، فنشرت الفرح.
لنُدخِل الذكاء الاصطناعي إلى الأستوديو، نعم، لكن لنُبْقِ الريشة في يد الإنسان، لأن الخطّ الذي يرسمه القلب لا يمكن لأي خوارزميةٍ أن تتقنه.































