بقلم: د. خالد التوزاني
لم تكن الثقافة في المجتمعات المتقدمة ترفاً فكرياً أو حاجة من الدرجة الثانية يلجأ إليها الناس في أوقات الفراغ من العمل، وإنما شَكَّلت حُضورًا أساسياً في تلك المجتمعات، من خلال إنشاء مؤسسات لها آليات وأهداف ومعطيات وخطط تنمية رائدة.. هدفها الرئيس هو بناء الإنسان الواعي والقادر على استيعاب التطورات والأحداث التي تدور حوله والاندماج في الحضارة المعاصرة، والمشاركة بفعالية وإيجابية في بناء مجتمعه والحرص على حماية تراثه والاعتزاز بتاريخه وأصوله، ولذلك كانت تلك المؤسسات الثقافية في خدمة تأصيل الثقافة الوطنية والارتقاء بالفعل الثقافي من مجرد إنتاج المعرفة إلى الاهتمام بنوعية هذه المعرفة وتوسّع حجمها ومجالاتها ومساحاتها لتشمل شريحة المثقفين أينما كانوا، داخل الوطن وخارجه، وضمن دائرة واسعة من الاختلاف المفضي إلى الثراء الثقافي، ومن التعدد المؤدي إلى الوحدة الوطنية، الشيء الذي يسهم في تعزيز قيم الحرية والانفتاح وترسيخ التواصل والتسامح، فالثقافة هي ما يعطي للفعل الإنساني معناه النبيل، وهي ما يجعل للحياة بُعداً إنسانياً سامياً، يرتقي بالإنسان إلى أسمى درجات الرقي والتحضّر. وضمن هذا السياق، يأتي إنشاء مؤسسة مغرب التراث للبحث والدراسة والحفاظ على التراث المادي واللامادي المغربي، بمبادرة من أحد الفاعلين في الحقل الثقافي المغربي، وهو الشريف الحاج سيدي محمد عز العرب العمراني، الذي راكم تجربة واسعة في العمل الجمعوي والثقافي لأزيد من أربعين عاماً، فقد كان صاحب مبادرات رائدة وأعمال خالدة، بقي صيتها محفوراً في الذاكرة المغربية، وظل أثرها حاضراً في النسيج الجمعوي، وخاصة في مدينة فاس، حيث يوجد المقر الرئيس لمؤسسة مغرب التراث. تهدف مؤسسة مغرب التراث إلى تحقيق عدد من الغايات، والتي تتمثل في حفظ ذاكرة الأمة المغربية، والإسهام في صيانة تراثها العلمي والثقافي والفني، بالتعاون مع الجهات المعنية؛ رسميةً وأهليةً، مع الانفتاح على مستجدات العصر بمواكبة التطورات التقنية الجديدة وتوظيفها في خدمة التراث والثقافة، بما يفيد في تعزيز جهود المملكة المغربية، وخاصة تفعيل برامج التنمية البشرية في شقها المتعلق بالتراث، وأيضاً عبر دعم المراكز البحثية والفعاليات الثقافية، وتأهيل الشباب في مختلف مجالات الإبداع الفني والثقافي والعلمي والتراثي، إضافة إلى إعداد بحوث استشرافية ودراسات ميدانية في مجالات التراث والثقافة والتنمية وتحقيق الارتقاء الثقافي والإقلاع التنموي المنشود، بتشجيع إنشاء المتاحف وتبني المشاريع التراثية والثقافية وتقديم المشورة في كيفية الحفاظ على التراث العمراني وإثراء القيمة السياحية للمباني التاريخية وتدبير مؤسسات التراث، وخلق شراكات مثمرة بين الفاعلين في الثقافة والمستثمرين في مجالات لها صلة بالتراث وتنمية الوعي الثقافي المستنير مع الاعتزاز بالهوية وتأكيد الارتباط بالثوابت الدينية والوطنية للمملكة المغربية. ولتحقيق هذه الغايات النبيلة، تعتمد مؤسسة مغرب التراث على وسائل متنوعة ومسارات متعددة؛ تقنية وبيداغوجية، منها على سبيل المثال لا الحصر؛ اعتماد المقاربات العلمية والمناهج الحديثة، وتقنيات التنشيط الثقافي والتربوي، وتنظيم ملتقيات ومؤتمرات ومهرجانات فنية وفكرية، في مجالات مختلفة منها؛ السينما والمسرح والموسيقى والتشكيل والأدب والثقافة الشعبية، وأيضاً تنظيم معارض فنية وعلمية في عدد من جهات المملكة المغربية، وبالإضافة إلى إصدار مجلة ونشرات دورية وكتب ودراسات علمية وثقافية تكون مرجعاً للمؤسسات الوطنية والدولية، ثُمّ تجميع هذه الوسائل في موقع إلكتروني منفتح على أكثر من لغة. وتضم مؤسسة مغرب التراث ضمن أعضائها نخبة من المفكرين والباحثين المغاربة ينتمون لحقول علمية متباينة تجمع بين العلوم الحقة والعلوم الإنسانية ومجال الاقتصاد الاجتماعي والعمل الفني والثقافي والإداري، إضافة إلى مكتب وطني موسع يضم عدداً من الشخصيات الدبلوماسية والعلمية الوازنة، وعدد من المتعاونين والشركاء، حيث تحظى هذه المؤسسة بالتقدير والاحترام نظراً لطموحها الجاد في تحقيق ذلك التعاون المنشود بين الثقافة والاقتصاد، برؤية جديدة تجعل التراث في بؤرة الاهتمام.
انطلقت أعمال مؤسسة مغرب التراث، منذ عام 2018، بمدينة فاس، وقد أثمرت عدداً من المبادرات الثقافية، منها إحداث بنك للمشاريع الممكنة التنزيل، وتأطير لقاءات تحسيسية وجولات للتعريف بالتراث وإبراز أهميته، وتنظيم سلسلة من المحاضرات الفكرية، والتي تزامنت مع جائحة كورونا، فتم نقل هذه المحاضرات عبر غرفة زووم بتقنية الانترنيت، وبذلك استطاعت المؤسسة تحقيق تراكم كبير في عدد هذه المحاضرات التي اقتربت من تسعين محاضرة قدمها نخبة من الباحثين والأساتذة في حقول معرفية ومجالات فكرية وعلمية، وقد تفاعل معها الآلاف من المتابعين عبر العالم.
وكذلك نظمت المؤسّسة لقاءات تعاون مع فعاليات جمعوية مماثلة لتبادل الخبرات والتجارب، كما التقت ببعض الوزراء في الحكومة المغربية، وعلى رأسهم وزير الثقافة ووزير السياحة لعرض بعض مشاريع المؤسسة، وقد عبر الوزراء عن استعدادهم لتوقيع اتفاقيات تعاون وتفاهم مع المؤسسة، لتحقيق الأهداف المشتركة، خاصة وأن تلك المشاريع تندرج ضمن مخطط عمل الحكومة المغربية في الارتقاء بالتراث والثقافة، كما نجحت المؤسسة في عقد لقاء عمل مع مدير أكاديمية فاس للتربية والتكوين، والذي عبر عن استعداده لتوقيع شراكة مع مؤسسة مغرب التراث.
وقد استمرت مبادرات مؤسسة مغرب التراث إلى حين عقد جمعها العام لتجديد المكتب المسير يوم السبت 28 أكتوبر 2023، حيث اجتمع الأعضاء في فندق المرينيين بمدينة فاس، وبحضور عدد من المنابر الإعلامية والفعاليات الفكرية والثقافية والفنية، حيث تم تلاوة التقريرين المالي والأدبي وفتح نقاش عام للإجابة عن الأسئلة وتدخلات الحضور ومقترحاتهم، ثم أخيراً اختتام فعاليات هذا الاجتماع بانسحاب أعضاء المكتب، وفسح المجال لانتخاب رئيس جديد لمؤسسة مغرب التراث، حيث أجمع الحضور على تجديد الثقة في الرئيس المؤسّس؛ الشريف الحاج سيدي محمد عز العرب العمراني، والذي تولى انتقاء أعضاء المكتب الجديد، في جو ديمقراطي وبتزكية من الأعضاء المؤسّسين والشرفيين والمتعاونين، والذين عبروا جميعاً عن سعادتهم بهذه التشكيلة الجديدة الوازنة لأعضاء المكتب المسير الجديد، والتي من المرتقب أن تقود المؤسسة في المرحلة القادمة، ومواصلة تنزيل المشاريع التي بدأها المكتب السابق.
ومن المشاريع المرتقبة خلال الموسم الثقافي الجديد 2023 ــ 2024، والتي تعتزم مؤسسة مغرب التراث تنزيلها في أرض الميدان، نستحضر ستة مشاريع كبرى، وهي:
- أولاً: إنشاء مركب ثقافي بالعاصمة العلمية للمملكة المغربية مدينة فاس، من خلال ترميم مدرسة الشريف الادريسي اللمطي التي تبلغ مساحتها حوالي 700م مربع، حيت قامت المؤسسة بدراسة تقنية في الموضوع واشركنا معنا عددا من الجمعيات من مدينة تطوان المهتمة بالتراث، استحضارا لقامات وأعلام مغاربة هامة سبق وأن درست بهذه المدرسة وتشبعت بالوطنية، نذكر منهم عبد الرحيم بوعبيد، وعبد اللطيف الجواهري، والمرحوم عبد الله الشريف الوزاني وغيرهم من أعلام المغرب المعاصر.
- ثانياً: تنظيم مهرجان الطبخ متعدد الثقافات، ويتعلق بالطبخ المغربي الفاسي، والطبخ الأمازيغي، ثم الطبخ اليهودي.
- ثالثا: إقامة مهرجان الأغنية المغربية، وهو مشروع بدأت المؤسسة في تنزيله، حيث تم طبع مائتي نسخة من كتاب حول الموضوع باللغتين العربية والفرنسية، في انتظار تتمة إجراءات التنظيم العملية.
- رابعاً: تنظيم أيام فاس بعدد من المدن المغربية، ومنها أيام فاس بطنجة.
- خامساً: إحداث دار الآلة أو الطرب أو الموسيقى، لتكون موسوعة للأنغام التراثية المغربية.
ويتمثل النشاط السادس في تنظيم حفل ثقافي كبير، في أواخر شهر نونبر 2023، يتعلق بحفل تقديم كتاب: “لو تكلمت حيطان فاس””SI LES MURS DE FES POUVAIENT PARLER” للأستاذة نعيمة برادة كنون والذي قدم له الأستاذ محمد زين العابدين الوزير السابق للشؤون الثقافية بدولة تونس، وترجمه الأستاذ الجامعي الدكتور خالد فتحي. وسيتم تنظيم جلسات ثقافية لقراءته ومناقشة بعض ما جاء فيه. إضافة إلى جولة سياحية في رحاب فاس العتيقة، وتُختتم بسهرة فنية على شرف صاحبة هذا الكتاب وضيوف المؤسسة، وذلك على امتداد يومي 25 و26 نونبر 2023.
من الأكيد أن هذه المبادرات الثقافية الرائدة، تمثل إغناءً للساحة الفكرية والثقافية في المغرب، ولها صدى طيب خارج الوطن أيضاً، نظراً للتواصل والانفتاح الذي تسلكه المؤسسة مع منخرطيها وأعضائها، وكل المحبين للتراث المغربي الأصيل، وذلك في أفق تنظيم مهرجانات عالمية على غرار مهرجان الموسيقى العريقة بفاس، وغيرها من الفعاليات الكبيرة التي تحظى بالرعاية السامية لعاهل البلاد جلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، ولذلك تضع مؤسسة مغرب التراث نصب عينيها هدفاً نبيلاً يتمثل في بلوغ صفة جمعية ذات النفع العام، حتى يكون لأنشطتها أبلغ الأثر في خدمة الشأن الثقافي والتراثي بالمملكة المغربية.
وفي كل مناسبة لا يتردد رئيس مؤسسة مغرب التراث الشريف الحاج سيدي محمد عز العرب العمراني في التأكيد على أهمية العمل المشترك وبناء فريق متكامل من الشركاء من أجل النجاح في مشاريع خدمة التراث والثقافة، ودعم التنمية في هذا المجال، وتعزيز حضور المؤسسة في الساحة الفكرية والثقافية داخل المغرب وخارجه.