بقلم: محمد منسي قنديل
هوس.. جنون .. هذه طريقة لعب المنتخب الياباني في كأس العالم، لا أحد ينتبه لهذا الفريق، ولا أحد يرشحه للذهاب إلى مركز متقدم، ولكنني شخصيا اشعر بالإحباط كلما اقصي من المسابقة، خاصة عندما يتم ذلك مبكرا، مسابقة كأس العالم واحدة من اجمل أفكار البشرية، عيد عالمي مبتكر من التنافس والفرح للذين يشاركون فيه والذين لم يشاركوا، لا يحزنني كثيرا خروج الفرق العربية لأنها بالفعل تستحق الخروج، لم ترتق ابدا لمستوى هذا الحدث، لا حضاريا ولا رياضيا، ولكن خروج اليابان يستحق التوقف عنده، البعض سوف يستغرب ، فاليابان ليس لها تاريخ كروي، وليست من القوى التي يعتد بها في مجال التنافس، ولكنها لا تهدأ، ولا تكف عن التخطيط لتكون كذلك وسوف تنجح بالتأكيد بينما نقف نحن في اماكننا نظر إليها مشدوهين كما ننظر إلى منتجاتهم التي تحاصرنا ونحن عاجزين عن تقليد أيا منها.
يلعب المنتخب الياباني بطريقة مختلفة عن الجميع، كرة سريعة، مباشرة، بلا تردد او محاولة للتحذلق، ينتشر لاعبوه على المستطيل الاخضر كقبضة اليد، يلعبون في تناسق دون نجوم مميزة أو انانية مفرطة، ورغم أن أجسادهم صغيرة، وقامتهم قصيرة، إلا أنهم يعوضون ذلك بجهد مضاعف حتى يتمكنوا من مواجهة الفرق التي تفوقهم حجما ومهارة، يحولون أجسادهم إلى آلات ذاتية الحركة، ولكن هذا الأمر لا ينجح دائما، بل أنه لم ينجح حتى الآن، مشكلة الفريق أنه لم يكن يواصل المشوار، هناك دائما في انتظاره هزيمة قاسية تخرجه مبكرا من البطولة، امر مثير للحيرة، كيف يمكن لكل هذا الجهد آلا يثمر عن لا شيء؟ كيف يمكن لهذا الشعب الذي يصنع آلاته بتلك الدقة والمهارة، آلا يؤدي هذه اللعبة بالمستوى نفسه؟ لماذا ينهزمون أمام فرق اقل منهم على مستوى التقدم؟ هل هناك قصور في نظرة الرياضيون اليابانيين تجعلهم عاجزين عن بلوغ المستويات القصوى في أي بطولة؟
تساؤلات تبدو بلا إجابة، ولكني وجدت البعض منها في بطولة كأس العالم الأخيرة، وتحديدا في المباراة التي أقيمت بينها وبين بلجيكا التي تمتلك فريقا قويا، كان مرشحا للوصول إلى نهائي الكأس، ورغم ذلك استطاعت البابان بنوع من التهور الخارق للعادة أن تتفوق عليه بهدفين، كان علي اليابانيين بعد ذلك، كما يقول منطق كرة القدم، أن يتراجعوا للوراء، ويضموا خطوطهم لبعضها البعض ويدافعوا عن مرماهم، ولكنهم واصلوا الهجوم بنوع من الهوس، ظلوا يندفعون جميعا إلى الامام ، نحو مرمى الخصم، وتركوا خطوطهم الخلفية مفتوحة، حتى بعد أن أصيب مرماهم بالهدف الأول، ثم الثاني، ظلوا على الحالة نفسهما من الجنون والاندفاع، كانوا يريدون أن يستعيدوا انتصارا ضاع من أيديهم ولم يعد في استطاعتهم تحقيقه، لم يفارقهم الجنون حتى في الثواني الأخيرة من المباراة ، كان يكفي ان يبقوا الكرة بين اقدامهم لعدة ثوان حتى تنتهي المباراة ويخرجوا متعادلين، ولكن هذا أيضا لم يفعلوه، ظلوا بنفس حالة الهوس حتى دخل فيهم الهدف الثالث وخرجوا منهزمين.
إنها ليست خطة لكرة القدم ولكن نزوع للانتحار، إحدى السمات الغريبة التي ترسبت في عقل اليابانيين وتناقلت في جيناتهم المتوارثة، فهي مازالت أكبر دولة في العالم في معدل الانتحار، تليها كوريا الجنوبية ودولة المجر في أوروبا، وإذا كانت المسيحية والإسلام تجرمان الانتحار وتعتبرانه جريمة تمنع مرتكبها من دخول الجنة، فإن البوذية لا تحرمه، بل تعتبره نوعا من الموت المشرف، خلاص من العار والاحساس بالفشل، تراث ياباني قديم من زمن فرسان الساموراي، عندما لم يكن الفارس يعترف بالهزيمة، ولا بلحظات الضعف، وكان عليه أن يلجأ للانتحار اهون من مواجهة لوم الاخرين، وحتى طريقته في الانتحار كانت غاية في القسوة، فهو يدخل السيف في جنبه حتى يخرج من الجانب الآخر، ثم يعاود إدخاله في بطنه ليخرجه من ظهره، أي إرادة واي ثبات في مواجهة الألم وأي رغبة في الموت، لكنها الطريقة الوحيدة التي عليها أن يسلكها لاستعادة شرفه.
هذا النزوع الحميم للانتحار مازال متواصلا رغم تعاقب الازمان والاجيال، وقد خاض طيارو سلاح الجو الياباني غمار الحرب العالمية بالأسلوب الأهوج نفسه، كان طيار «الكماكيزي» ومعناها «رياح الرب» يقتحم بطائرته أي سفينة حربية أو تجارية، يدمرها ويدمر طائرته ويقتل نفسه، طريقة انتحارية خارقة، قام بها الطيارون بتدافع وحماس لأنها تغذي نزعتهم القديمة، ولكنها لم تكسبهم الحرب، مات الطيارون ودمرت اسراب الطائرات، ولم يصب إلا عشر اسطول الأعداء، وجاءت القنبلة الذرية الامريكية لتقضي على كل أحلام اليابان في استعمار آسيا، ولكن نزعة الانتحار لم تمت، تناقلتها الأجيال وأضافت عليها هالة من المهابة والتشريف، ومن الغريب أن كبار ادباء اليابان قد ساهموا في أحياء هذا التقليد الدامي، الأديب نيكيتا ميشيما الفائز بجائزة نوبل، كان اكثر الغاضبين بسبب ضياع التقاليد القديمة، كان يدرك أن اليابان قد انهزمت في الحرب، ليس جيشها فقط، ولكن كل تراثها القائم على التفرد والتعالي على الحضارات الأخرى، نظرة عنصرية قديمة ظل تتأجج في أعماقه وهو يشاهد مظاهر الحياة الغربية التي بدأت تغزو بلاده، لم يكن أمامه من وسيلة للاحتجاج غير الانتحار، لم يفعلها في صمت، ولكن أمام بقايا من رجال الجيش الياباني المهزوم، جلس امامه واستعاد تقاليد الساموراي القديمة وادخل السيف في جنبه ليخرجه من الجانب الآخر، ثم عاود إدخاله في بطنه ليخرج من ظهره، انتحار مدو تناقله وكالات انباء العالم كلها، وانتقل إلى تلميذه الكاتب ياسونارا كواباتا الذي قام هو أيضا بالانتحار بالطريقة نفسها، لقد بعثا معا تقليدا مريعا ليكون الحل الأوحد في مواجهة هزائم الحياة المعاصرة.
المواطن الياباني يعيش تحت ضغوط دائمة، صغار المدارس يعانون من ضغوط التفوق في الامتحانات، وعدم الالتحاق بمدارس جيدة، ومن تنمر التلاميذ الصغار عليهم، ولا يجيدون سبيلا أمامهم إلا الانتحار، لذلك تكثر هذه الحوادث في سبتمبر من كل عام، موعد دخول المدارس، في العام الماضي انتحر 25 ألف ياباني، %60 منهم من الشباب، بمعدل 70 حالة كل يوم، وباء من نوع غريب، الكبار أيضا لا يستطيعون تحمل ضغوط العمل بساعاته الإضافية، العامل الياباني يعمل ما لا يقل عن 60 ساعة أسبوعيا، بينما في أوروبا لا تزيد عن 40 ساعة، ومؤخرا انتحرت شابة كانت تعمل 100 ساعة أسبوعيا، لم تتحمل هذا الارهاق ولم تكن تأخذ وقتا كافيا للنوم أو ممارسة أي حياة اجتماعية، هذا الوباء القومي اصبح يقلق المسئولين، لأنه اصبح شيئا متأصلا داخل الذات، ولعل هذا بدا واضحا في طريقة لاعبي فريقهم، ومن المفارقة أن هذا الشعب الذي يشتغل كخلية نحل لا يكف عن الإنتاج، لا يكف عن الانتحار أيضا.






























