بقلم / مسعود معلوف
يسود العلاقات الأميركية – الصينية منذ عدة سنوات توتر سياسي واقتصادي واضح. ولكن في الرابع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي، التقى الرئيسان الأميركي جو بايدن والصيني شي جينبين في مدينة بالي الإندونيسية على هامش اجتماعات قمة العشرين التي عقدت في تلك المدينة، وقد أتى هذا الإجتماع على أثر ردة الفعل الصينية السلبية القوية التي أحدثتها زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي آنذاك نانسي بيلوزي الى تايوان.
في ذلك الإجتماع الذي اتسم بتبادل صريح بين الرئيسين، تقرر تشكيل لجان من كلا البلدين للسعي الى معالجة المواضيع الخلافية، ومن هذا المنطلق قرر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلنكن القيام بزيارة الى العاصمة الصينية بيجينغ في اوائل شباط/فبراير 2023.
قبل أيام قليلة من هذا التاريخ، قام وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن بزيارة الى كوريا الجنوبية لتأكيد الدعم الأميركي لهذا البلد بمناسبة الذكرى السبعين لعلاقات التحالف بين هاتين الدولتين، ولتجديد الإلتزام بحماية هذه الدولة الحليفة في مواجهتها للتحديات المتصاعدة من قبل كوريا الشمالية، ثم زار دولة الفيليبين حيث تسلمت الولايات المتحدة أربع قواعد عسكرية لتدعيم وجودها في هذه المنطقة من العالم وتحسبا لأي احتمال من قيام الصين باجتياح جزيرة تايوان المرتبطة مع الولايات المتحدة باتفاقات اقتصادية ودفاعية. هذه الزيارة الى الفيليبين واستلام القواعد العسكرية أثارت غضب الصين التي تعتبر تايوان جزءا لا يتجزأ من أراضيها.
بالإضافة الى قضية تايوان، تعتبر الصين أن ما يعرف ببحر جنوب الصين هو من ضمن مياهها الإقليمية وترفض وجود أساطيل وسفن غريبة فيه، بينما تعتبر الولايات المتحدة والدول الغربية وأوستراليا هذا البحر مياها دولية يحق لجميع البواخر المدنية والحربية المرور فيه دون أي عائق.
هنالك أيضا مسألة “التحالف غير المحدود” القائم بين الصين وروسيا منذ بضع سنوات، والدعم الإقتصادي الذي تقدمه الصين لروسيا في حربها ضد أوكرانيا، وكذلك الخلافات الإقتصادية القوية سواء على صعيد التبادل التجاري أو المنافسة الإقتصادية القوية بين الدولتين، وكل هذه الأمور تجعل العلاقات بين هاتين الدولتين العظميين متوترة ومعقدة جدا، هذا عدا موقف كل من الصين وأميركا من تايوان، ويضاف الى كل ذلك أنه من المتوقع ان تحل الصين محل الولايات المتحدة كأول وأقوى اقتصاد في العالم بعد حوالى عقد من الزمن.
على هذه الخلفية من العلاقات المعقدة والمتوترة كان من المحتمل أن تحقق زيارة الوزير الأميركي بلنكن الى بيجينغ، في أفضل الإحتمالات، إيقاف التدهور في هذه العلاقات وإن لم يكن من المتوقع تحقيق تقارب بين الدولتين، ولكن المنطاد الصيني الذي شوهد في الأجواء الأميركية زاد الأمور تعقيدا وأدى الى تأجيل زيارة الوزير بلنكن، الذي ابلغ السلطات الصينية، عشية الموعد الذي كان مقررا لسفره الى بيجينغ، أن هذا التصرف الصيني يعتبر خرقا للسيادة الأميركية وللقانون الدولي وهو تصرف غير مسؤول.
مع أن الناطقة بلسان وزارة الخارجية الصينية أعلنت أن المنطاد هو جهاز مدني بحت مهمته القيام بأبحاث حول الطقس، وقد جرفته الرياح القوية، ووجوده في الأجواء الأميركية حصل نتيجة قوة قاهرة، معربة عن أسف الصين لهذه الحادثة غير الإرادية، إلا أن الولايات المتحدة لم تقبل هذا التبرير وعمدت الى إسقاط المنطاد بعد ان ابتعد عن المناطق الآهلة بالسكان وذلك تجنبا لإيقاع أضرار في الأرواح أو الممتلكات.
جدير بالتوضيح هنا أن هذا المنطاد، الذي زاد العلاقات الأميركية-الصينية تعقيدا كما أنه أصبح موضوعا خلافيا كبيرا في السياسة الأميركية الداخلية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، تسميه الصين منطاد أبحاث، وتسميه السلطات الأميركية الرسمية منطاد مراقبة، بينما تسميه معظم وسائل الإعلام الأميركية منطاد تجسس.
لا شك أن اكتشاف منطاد صيني للمراقبة او للتجسس في الأجواء الأميركية، وإسقاطه من قبل السلاح الجوي الأميركي، وتأجيل زيارة وزير الخارجية الأميركي الى الصين، وتأكيد السلطات الصينية بأنها تحتفظ بحقها في الرد على إسقاط منطادها، كلها أمور تدل على مزيد من التوتر في العلاقات الثنائية، خاصة وأنها أمور سلبية تضاف الى الأجواء الخلافية السائدة بين هاتين الدولتين.
فعلى الصعيد الأميركي الداخلي، لم يتأخر الجمهوريون، وفي طليعتهم رئيس مجلس النواب كيفين ماكارثي، في توجيه اللوم للرئيس بايدن متهمين إياه بالضعف أمام الصين وبالتأخر في إسقاط المنطاد، علما أن بايدن أعطى أوامره بإسقاطه منذ رصده في الجو شرط أن لا يؤدي ذلك الى الإضرار بالأرواح أو الأملاك، فانتظر القادة العسكريون وصول المنطاد فوق البحر حيث أسقطوه بسهولة، ثم بدأت عملية جمع الحطام من قعر البحر ونقلها تباعا الى مختبرات مكتب التحقيق الفدرالي لدراسة مكونات هذا المنطاد.
تجدر الإشارة هنا الى أن الحزب الجمهوري يحاول في كل مناسبة انتقاد الرئيس بايدن في أي قرار يتخذه، واتهامه بالضعف وبعدم قدرته على حماية المصالح الأميركية، وذلك استعدادا للمعركة الرئاسية التي ستجري في أواخر العام القادم إذ من المتوقع أن يترشح بايدن لولاية ثانية، مع أنه حتى الآن لم يعلن عن قراره بالترشح أو عدمه.
أما بالنسبة الى العلاقات مع الصين، فجميع المؤشرات والتصريحات المتبادلة والمواقف المعلنة تدل على أن هذه العلاقات تسير في اتجاه المزيد من التعقيد والتوتر، أقلا في المستقبل المنظور.
فبعد أن كانت الصين أعلنت عن أسفها لوجود المنطاد في الأجواء الأميركية بسبب قوة قاهرة، رفعت من حدة لهجتها بعد إسقاط المنطاد، معتبرة هذا العمل الأميركي خرقا للممارسات الدولية مع مطالبة الولايات المتحدة بإعادة حطام المنطاد الى الصين لانه ملكها.
لا شك أننا في الوقت الحاضر أمام أزمة دبلوماسية جديدة بين البلدين، وما يجعل المراقبين يعتقدون أن هذه الأزمة غير قريبة الحل هو أنها تأتي على خلفية من التوتر في العلاقات الثنائية، يضاف الى كل ذلك ان رئيس مجلس النواب كيفين ماكارثي، من الحزب الجمهوري المعارض للرئيس بايدن، سبق له وأعلن حتى قبل تسلمه رئاسة مجلس النواب مطلع هذه السنة، أنه ينوي القيام بزيارة الى تايوان، ولا شك أن مثل هذه الزيارة ستزيد العلاقات تأزما وتعقيدا، خاصة وأن الحزب الجمهوري، على ما يبدو، سيركز حملته على الصين ليصيب من خلالها الرئيس بايدن وطريقة تعاطيه مع هذه الدولة.
وما يجعل هذه الأزمة المتفاقمة في العلاقات الثنائية بين الصين والولايات المتحدة صعبة الحل في المستقبل المنظور، بالإضافة الى العوامل التي سبق ذكرها، هو أن أيا من الفريقين لا يود إظهار أية علامة ضعف أمام الفريق الآخر، فالرئيس الصيني، وإن كان الرأي العام الداخلي ليس له تأثير كبير على القرارات المتخذة من القيادة، يود أن يظهر بمظهر الرئيس القوي الذي يدافع عن مصالح شعبه، خاصة وأنه انتخب منذ وقت قريب لولاية ثالثة، وقد يكون ذلك سببا في رفض السلطات الصينية الإجابة على الإتصال الهاتفي من قبل وزير الدفاع الأميركي، والرئيس بايدن، الذي على الأرجح يفكر بالترشح لولاية ثانية وهو متهم من قبل أخصامه الجمهوريين بالضعف، يود إظهار قوة وعزم في تعاطيه مع الجانب الصيني، فلا شك أن أيا من الفريقين لا يستطيع أن يتنازل قيد أنملة.
ولكن إذا ما نظرنا الى مصالح كل من الدولتين، فلا الصين تستفيد من مزيد من الخلاف مع الولايات المتحدة، وهي كانت تأمل من زيارة وزير الخارجية بلنكن الوصول الى بعض الخطوات الإيجابية في حل جزء ولو ضئيل من المشاكل الإقتصادية لينتعش بعض الشيء الإقتصاد الصيني بعد الركود الذي أصابه نتيجة الخطوات الصارمة جدا التي اتخذتها السلطات الصينية للتخلص من جائحة الكوفيد، كما أن الولايات المتحدة كانت لتستفيد من وقف التدهور وعدم خلق مشاكل إضافية تلهيها عن خلافها القوي مع موسكو نتيجة للحرب الروسية على أوكرانيا والإنغماس الأميركي في هذه الأزمة. والملفت هنا ان كلا البلدين أعلن عن إرادته الإستمرار في التشاور، كما أن بلنكن لم يعلن إلغاء زيارته بل فقط تأجيلها.
من هذا المنطلق، قد يكون الحل لهذه المشكلة الجديدة التي خلقها المنطاد في العلاقات المتأزمة أصلا بين الدولتين أن تثبت الصين للولايات المتحدة، وبالأدلة الدامغة، أن مهمة المنطاد كانت فقط للأبحاث المناخية، وأن الرياح العاتية قذفته فوق الأراضي الأميركية، وفي حال تأكدت المختبرات الأميركية من جهة ثانية ان المنطاد كان يحمل أجهزة تجسس لصالح الحكومة الصينية، فمن الأفضل أن لا تنشر الولايات المتحدة هذه المعلومات، بل تكتفي بإبلاغها للصين مع الأدلة الدامغة، فتستطيع الولايات المتحدة عندئذ تنفيذ زيارة وزير خارجيتها الى بيجينغ والحصول على بعض مطالبها من الصين مثل عدم التعرض للبواخر في بحر جنوب الصين، أو التزام صيني بعدم اجتياح جزيرة تايوان، أو التخفيف من تأييدها لروسيا في حربها على أوكرانيا، على أن تخفف الولايات المتحدة، لقاء ذلك، بعض القيود التي تفرضها على الإستيراد من الصين، وبذلك يكون استفاد الطرفان ووضعا حدا للتدهور الخطير في علاقاتهما، ويصبح المنطاد، الذي كاد أن يوصل البلدين الى توتر لا يعرف أحد الى أين يمكن أن يؤدي، الخطوة الأولى في طريق بعض التحسن في العلاقات الأميركية-الصينية.