قصة بقلم : نعمة الله رياض
أحمل صافرتي الصغيرة دائما معي، صافرة الحكم ، فأنا اؤكد بصفيرها – بيب بيب بيب – هيمنة الحقيقة وانتصار العدالة .. ويحتمل المحيطون بي تصفيري بها من حين لأخر ،أيا كان نوعهم وصنفهم ووضعهم الإجتماعي ، بإعتباري خفيف العقل !! فلا يبالوا بي .. وهم لا يعلموا بالتأكيد انني ، وبلا غرور ، احتل منصبا رفيعا أتميز به عن كل من حولي من البشر ، وهو أني سفيراً للنوايا الحسنة ،!! وهذا المنصب تهبه الانسانيه من نفسها لبعض الاشخاص المميزين بفرط الاحاسيس. ومن مسئوليات منصبي الخطير هذا ، البحث عن أمثالي من سفراء النوايا الحسنه لنتبادل الرسائل بلغة مشتركة نتفاهم بها ، رغم اننا غرباء ، إذ نتقابل بالصدفة وقد يحدث هذا الإتصال اثناء عبورنا في المجال العام المشترك بيننا فأبادر واهمس في أذن من أقابله ، انني تلقيت رسالته وممتن لإستلامها فهي رسالة سامية تعبر عن احاسيس راقية بعيدة عن التعامل النفعي السائد بين عامة البشر!! يحدث هذا عرضاً في الشارع او في المقهي او حتي داخل وسيلة لنقل الركاب ..
في مرة ، كنت جالساً أنتظر الحافله في الموقف، رأيت شابا جالساً في المقعد المقابل لي ، كان في حالة مزاجية عالية ، يدندن ويصفر لحن أغنية معروفة ، إنتظرت حتي إنتهي من عزفها بفمه ، فإبتسمت له وصفقت له مهنئاً علي حسه الموسيقي الرائع، فرد علي إعجابي بتحية مرحه بكفه علي جبهته، فتأكدت انه سفيراً للنوايا الحسنه مثلي تماماً، وبغتة وجدت نفسي انتقل إلي المقعد المجاور له وأهمس في اذنه : انني تلقيت رسالته وممتن لإستلامها فهي رسالة سامية تعبر عن احاسيس راقية!! ، لكنني وجدته ، وياللأسف، يستغرب من كلامي وينفر مني وينهض واقفاً مبتعداً خطوة للوراء، وعلي الفور نهضت وإقتربت منه ثم إحتضنته بذراعي وقبلته علي خده الشمال ثم اليمين ثم جبهته وربت علي كتفه ، معلنا له موافقتي علي صداقته ، بإعتباره مثلي، سفيراً للنوايا الحسنة!! بهت وجه الشاب وحملق في ضارباً كفاً بكف ، وغادر موقف الحافلات مبتعداً وعلي عجل !! أخرجت صافرتي من مكمنها وصفرت بها صفيرا متواصلا – بيب بيب بيب – تعبيراً عن تقديري لنفسي كحكم متميز ، لكن المشكلة فقط تكمن في هذا الشاب الأبله فهو لم يكن يعلم انه سفيراً للنوايا الحسنة ، مثل سفراء كثر لا يعرفون انهم كذلك ويبلغون رسالتها دون ان يدركوا..
كلما استعرضت حياتي ، أجدها سلسلة متصلة من الهزائم والإخفاقات المريرة ..أصعبها علي النفس، موت ابي وامي في حادث واستيلاء عمي علي الإرث ومنزل العائلة ، وإكتفي بدفع إعانة شهرية لمصروفاتي وايجار غرفة بسطح المنزل الذي كنا نمتلكه .. هزيمة أخري حدثت في الماضي، فقد أحببت فتاة جميلة في مستهل شبابي ، لكن أهلها رفضوني بدون أسباب ، فلم أعيد الكرة مرة أخري وانطويت علي حبي المغدور مخلفاً انقاضاً من الركام تملأ قلبي.. كلما تذكرت ذلك كله، أخرج صافرتي من مكمنها وأصفر بها صفيرا متصلا – بيب بيب بيب – إحتجاجاً وإستنكاراً وشجباً علي العداله المفقودة والحقيقة الغائبة ..
في طريق عودتي للمنزل ذات يوم ، شاهدت أطفالا في الشارع يسحبون كلبا صغيراً بحبل مربوط حول رقبته وهو يقاومهم تارة ويستجيب لسحبهم مرغماً تارة أخري ، وكانوا لا يكفون عن ركلهم للكلب المسكين .. أخرجت علي الفور صافرتي وصفرت بها بقوة – بيب بيب بيب – فابتعدوا عنه واقتربت منه فنظر الي خائفاً ومتوجساً، لكني ربت علي رأسه برفق ومررت يدي علي فروة ظهرة فإطمأن لي ، وحملته إلي حجرتي في سطح المنزل ، كان كلباً جميلا تتدلي أذنيه الكبيرتين علي جانبي رأسه ، ليس أبداً كالكلاب التي تملأ الشوارع ، يبدو إنه تائه أو أن أصحابه من حي أخر تخلصوا منه في حينا .. قلت له : من الآن سنصير أصدقاء ، رغم إنك لست من عالمي،ولست بالطبع سفيراً للنوايا الحسنة، إلا إن غرفة واحدة تجمعنا الآن .. إبحث عن الحرية داخل هذه الغرفة ولا تعلق آمالا علي اولئك الموجودين بالخارج ، إنهم ليسوا إلا مخابيل !! رأيته ينظر الي ويوجه رأسه يمنة ويسارا ، يبدو انه استوعب كلامي .. الكلاب عموما كائنات لطيفة ، لا يهمها أن يكون صاحبها غنياً او فقيرا عجوزا او شابا عاقلا او مجنونا، كل همهم هو صداقتهم مع أصحابهم .. حينئذ يمنحونه كل الولاء والطاعة والإخلاص.. كم أحببت هذا الكائن المرهف الحواس ، الذي يسير خلفك أينما تذهب .. كان يخاطبني بلغة الفهم والأحاسيس دون كلمة ، كنت العب معه بالكرة وقت فراغي وينصرف ويتكوم علي الأرض إذا كنت مشغولاً .. كنت أطعمه في الصباح وأغلق عليه باب الغرفه وأعود اليه في المساء حاملاً الطعام والشراب ..عشت معه شهورا طويلة سعيدة ، لا أشعر فيها بالوحدة والفراغ ، الي أن جاء يوم مشؤوم نسيت فيها غلق باب الحجرة ولم اجده عندما عدت في المساء .. بحثت عنه في كل مكان وسألت الأطفال في الشوارع ولم أجده حتي علمت من أحد الأطفال أن جزاراً شاهد الكلب يسرق قطعة كبيرة من اللحم من محله فجري ورائه ماسكاً ساطور ضخم شج به رأس الكلب المسكين .. علمت مكان جثته فوجدتها ملقاه فوق أكوام القمامة .. وصل غضبي إلي المنتهي وأخرجت صافرتي من مكمنها وصفرت بها صفيرا متصلا – بيب بيب بيب – والتقطت عدداً من الأحجار قذفت بها محل الجزار كسر حجر منها واجهه المحل الزجاجية ، وانا أصيح غاضباً – جون جون جون – !!ولم أتوقف الا بعد أن بادلني الجزار إلقاء الحجارة فهربت ألوذ بغرفتي …
في الطريق الرئيسي كنت أسير اتفقد الرعية، رعيتي أنا طبعاً ، مرت من أمامي فتاة جميله ، ذلك الجمال الذى يرضيني كسفير للنوايا الحسنة ، نظرت إليها وابتسمت ، نظرت إلي من أعلي شعر رأسي إلي أخمص قدمي .. ردت بابتسامة مقتضبه ، قد تكون إبتسامة مشفقة ،وابتعدت عن طريقي ..نعم هي أيضا بالتأكيد سفيرة للنوايا الحسنة .. ألم تبادلني الإبتسام؟!! عكست خطوتي ومشيت ورائها ثم بمحاذاتها ثم سبقتها بخطوه وإستدرت أمامها، إحتضنتها بذراعي وقبلتها علي خدها الشمال ثم اليمين ثم جبهتها وربت علي كتفها، وهمست في أذنها بموافقتي علي صداقتها ، بإعتبارها سفيرة للنوايا الحسنة!! صرخت الفتاه وتجمع الماره وإزداد صراخها ، واتهمتني الملعونه بتقبيلها والتحرش بها بل أيضاً بمحاولة نزع ملابسها!! ، الكاذبة الشريرة ، وطفقت تبكي وتولول في هيستيريا..تجمع الناس حولي وأوسعوني ضربا وركلا، حتي سقطت علي الأرض ، طلبوا الشرطة فجاءت سيارتها تطوي الأرض طياً ، مسرعة بسارينتها الزاعقة، نزل منها الضابط واستفسر عما حدث ، نظر إلي الفتاة الباكية وهي تعيد ترتيب ردائها وتعيد قصة شعرها ، ورمقني بعينيه .. لم أكن في وضع يسمح لي بالدفاع عن نفسي وإفهامهم انني سفير للنوايا الحسنة ، بسرعة أخرجت صافرتي وعزفت بها السلام الوطني للسفراء –بيب بيب بيب- وانا أضحك بصوت عالي وظللت أقهقه حتي سحبوني علي الأرض رغماً عني وأصعدوني لسيارتهم ..هناك في قسم الشرطة ، جاءت سيارة أخري نزل منها رجلان كالثيران يحملان قميصاً ابيضاً طويلاً تتدلي منه أربطه .. ماذا يفعل بي هؤلاء المجانين ؟ يقيدون حركتي ؟ إلي اين يأخذوني؟.. ألم يعلموا بعد إني سفيراً للنوايا الحسنة ؟!!