بقلم / مسعود معلوف
سفير متقاعد
لبنان بلد صغير معروف بجمال طبيعته، ومناظره الخلابة، والمستوى التعليمي المرتفع فيه، ومأكولاته الشهية التي غزت العالم، وجالياته المنتشرة في جميع القارات مسجلة نجاحات ملموسة في شتى المجالات من اقتصادية ومالية وسياسية وثقافية، ولكن بالرغم من كل ذلك، نرى بوضوح المشكلات التي يتعرض لها البلد حاليا حيث فقدت العملة الوطنية أكثر من 95% من قيمتها، كما ان ما يزيد عن 75 % من اللبنانيين أصبحوا تحت درجة الفقر حسب تقارير البنك الدولي، وكل ذلك على خلفية الإنهيار المصرفي، والفراغ الرئاسي وما يرافقه من تعقيدات سياسية ومشكلات اقتصادية، علما أن البلد شهد منذ استقلاله حروبا أهلية مدمرة ومتكررة وأحداثا أمنية كثيرة ومتنوعة.
إزاء ذلك، لا بد لنا أن نتساءل عن أسباب هذه الأوضاع الرديئة وهذا التدهور الرهيب في مستوى المعيشة في لبنان، وهل ان الشعب اللبناني مسؤول الى حد ما عما لحقب البلد من مصائب أم أن الأسباب، كما يروج البعض، تعود الى التدخلات الخارجية في الشؤون اللبنانية الداخلية؟
أولا: على الصعيد السياسي
لم يبق مسؤول دولي له علاقة بلبنان سواء أكان رئيس دولة، أو رئيس حكومة، أو وزير خارجية، أو مديرا رفيعا في البنك الدولي أو صندوق االنقد الدولي، إلا وأشار إلى مسؤولية الطبقة الحاكمة والسياسيين اللبنانيين في هبوط البلد إلى هذا الدرك بسبب الفساد المتفشي على جميع المستويات، مؤكدين على ضرورة إجراء إصلاحات لا يمكن أن تتحسن الأمور دونها، كما أكدت جميع هذه المرجعيات أنها لا تثق بالطبقة الحاكمة ولن تقدم أية مساعدة للحكومة اللبنانية قبل إجراء الإصلاحات المطلوبة.
بالرغم من كل ذلك وبعد مرور ثلاث سنوات على بداية الأزمة، لم يحصل أي إصلاح لا في الإدارة، ولا في القوانين، ولا في محاسبة الفاسدين، ولا في ملاحقة قضائية للمصارف التي توقفت عن تسليم المودعين أموالهم، والسؤال الذي ينبغي طرحه على اللبنانيين هو: هل أنتم مسؤولون كما الحكام عن هذه الأوضاع السيئة التي وصلت اليها البلاد، وهل انتم متحدون في مواجهة المسؤولين الذين أوصلوكم الى هذه الحال، أم أنكم منقسمون طائفيا يتبع كل فريق منكم زعيم طائفته ويوافق على ما يفعله الزعيم دون مساءلته؟ وباختصار هل تشعرون بانتماء حقيقي الى هذا البلد؟
الجواب عن هذا السؤال بديهي وقد ظهر بوضوح في نتيجة الإنتخابات التشريعية التي حصلت في شهر أيار/مايو العام الماضي عندما أعاد اللبنانيون الى المجلس النيابي حوالي 90% من الزعماء وقادة الأحزاب الطائفيين أو ممثليهم إذ انتخب كل فريق زعيم طائفته بصرف النظر عن مسؤولية هذا الزعيم في انهيار البلد.
فالشعب المقسوم على نفسه طائفيا يتحمل نتائج الأزمات التي تحصل عندما لا تتم محاسبة المسؤولين لا عبر الإنتخابات ولا عبر القضاء، والذين أوصلوا البلد الى هذه الحال ما زالوا مستمرين في مهامهم مرتاحي البال وإن لم يكونوا على الأرجح مرتاحي الضمير، ولا يمكن، في هذه الحال، الإدعاء بأن التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية اللبنانية والمصالح الخارجية وحدها هي التي تسببت في هذه الأمور.
والسؤال الآخر الذي لا بد أن يطرح على اللبنانيين هو: إزاء خسارتكم لودائعكم في المصارف، وهذه الخسارة طاولت جميع المودعين من مختلف الأحزاب والطوائف، هل اتخذتم موقفا موحدا لمجابهة هذا الواقع الذي لم يحصل بسبب كارثة طبيعية ولكن بسبب الفساد المستشري والسرقات اللا محدودة لأموال الدولة وأموالكم؟وبصرف النظر عن بعض الأعمال الإنتقامية التي قام بها بعض الأفراد، لم يحصل أي عمل جماعي واسع النطاق،عابر للأحزاب والطوائف، للضغط على المسؤولين لملاحقة المصارف قضائيا وسياسيا،ولاستعادة الأموال المنهوبة والتي حولت الى الخارج.
كانت هذه بعض الإعتبارات، على الصعيد السياسي،التي أدت الى الأزمات التي يعاني منها لبنان،والى صعوبة معالجتها والخروج منها. ولكن هنالك أيضا اعتبارات أخرى، على الصعيد الإجتماعي،تحول دون تمكين لبنان من أن يكون دولة حديثة تنعم بالإستقرار والرفاهية.
ثانيا: على الصعيد الإجتماعي
تبنى الأوطان وتزدهر عندما يتمتع الشعب بقيم وأخلاقيات ثابتة ويعي كل مواطن المعنى الحقيقي للمواطنة بحيث يقتنع ان البلد ليس ملكه، وبالتالي عليه احترام حقوق الآخرين الذين يتشاركون معه العيش في البلد، ومن هذا المنطلق، نوجه الى المواطن اللبناني بعض الأسئلة حول سلوكه العام في حياته اليومية في لبنان، ومن هذه الأسئلة نستطيع أن نستنتج مدى مسؤولية اللبنانيين عن الأوضاع المتردية التي وصل اليها البلد:
- عندما تقود سيارتك، هل تحترم إشارات السير وهل تحترم بقية السائقين الذين يتمتعون بنفس الحقوق التي تتمتع بها أنت أثناء قيادتك السيارة؟ وعندما تركن سيارتك، هل تفكر بعدم تشكيل عائق لسائر السيارات أو للمشاة في الشارع؟ وعندما ترى أحد المشاة يحاول عبور الشارع، هل تخفف سرعتك أو توقف سيارتك لحظة ليتمكن من العبور مثلما يحصل في الدول المتحضرة؟
- هل تتجنب رمي الأوساخ والسجائر من نافذة سيارتك أو من شرفة منزلك كي لا تزعج الآخرين؟
- لقد زاد كثيرا عدد الكلاب الأليفة في المنازل ومن الضروري إخراج الكلب الى الشارع لقضاء حاجته الطبيعية، والسؤال الذي لا بد من طرحه على المواطن اللبناني هو: عندما تخرج مع كلبك الى الشارع، هل تأخذ معك كيسا لتنظيف أوساخ الكلب بدل تركها على الأرض فيدوسها المارة خطأ، أو يرون المنظر القبيح، أو يشمون الرائحة الكريهة؟ أنا شخصيا أمشي مرفوع الرأس أينما سافرت إلا في لبنان حيث أحني رأسي لأتأكد أنني لا أدوس على أوساخ الكلاب المتروكة على الأرصفة.
- هل تقف باحترام في الصف أمام الأفران أو عند شراء حاجاتك او في أي مكان مكتظ بالناس لتصل الى غايتك دون محاولة تجاوز الآخرين الذين ينتظرون دورهم؟
نعرف جميعا الأجوبة عن هذه التساؤلات التي تبدو لأول وهلة سطحية وكأنها دون أهمية في بناء الأوطان، ولكن في الواقع، البلاد التي لا يتصرف مواطنوها على مبدأ أن حرية الفرد تتوقف عند حرية الآخرين، وحيث لا يوجد حقوق وواجبات متساوية لجميع السكان، وحيث قسم من المواطنين يحترمون قوانين البلد بينما آخرون يخالفون القوانين دون عقاب، هذا دون الحديث عن إمكانية اقتناء السلاح واستعماله في العلن لفريق من السكان دون سواهم، وإذا أضفنا الى كل ذلك انقسام الشعب الى فئات طائفية متخاصمة على صلاحيات الحكم،وكل طائفة منها تستقوي بمرجعية في الخارج، عندئذ يتضح لنا بعض الأسباب التي حالت دون تمكين اللبنانيين من بناء دولة عصرية لا تتعرض كل بضع سنوات لحرب أهلية أو خضات اجتماعية.
لذلك لا نستغرب إن كان قسما من اللبنانيين يسعون بشتى الوسائل للتهرب من دفع ضرائبهم انطلاقا من قناعتهم بوجود الفساد السائد في الدولة، وخشية من أن يذهب قسما لا بأس به من أموال الضرائب الى جيوب بعض المسؤولين، وهذا ما يشكل حلقة مفرغة إذ أن التهرب من دفع الضرائب يؤدي الى تدني دخل الدولة، وهذا ما يؤدي بالتالي الى عدم تمكن الحكومة من إنجاز مشاريع إنمائية، وعندئذ تزداد شكوك المواطن بفساد المسؤولين وبعدم قيامهم بواجباتهم، ونصل الى مزيد من التهرب من تسديد الضرائب.
فوجود قلة ثقة بالحكام الذين هم مسؤولون مباشرة عن أملاك الدولة بما فيها الطرقات والحدائق العامة والشواطئ، يفسر بعض الشيء لماذا لا يهتم المواطنون بهذه الأماكن، ولماذا يرمون فيها أوساخهم دون شعور بالذنب. وعندما لا يثق المواطنون بحكامهم لا يمكن أن يكون لديهم شعور بالمواطنة وبالمسؤولية المشتركة تجاه أمور الوطن،ويستحيل عندئذ بناء دولة سليمة يشعر كل مواطن فيها بأنه ينتمي إليها، ويقوم بكل ما يمكن القيام به من أجل حماية هذه الدولة ورفع شأنها والمساهمة بازدهارها والحفاظ على نظافتها وسلامتها وعزتها.
منذ أن حصل لبنان على استقلاله عام 1943، لم يتمكن من بناء الدولة التي يشعر المواطنون بانتمائهم التام اليها بسبب انقسامهم الى طوائف ومذاهب تتنافس على تقاسم الصلاحيات والغنائم بدل التنافس على بناء الوطن، وغالبا ما نسمع فريقا يقول لإخصامه إن كان الوضع لا يعجبكم غادروا البلد، وفريق آخر يطالب بتقسيم البلد لكي يكون له دولته التي يحكمها على طريقته، وهذه الأمور أدت في الماضي وستؤدي في المستقبل الى حروب أهلية يتخللها فترات من الهدنة المؤقتة، وعدم استقرار في الأوضاع الإقتصادية والسياسية.
ما يحصل حاليا في لبنان هو من تجليات هذه الأوضاع السلبية، وإذا لم يتمكن اللبنانيون من الخروج من هذا الإنقسام الطائفي والوصول الى بناء دولة مدنية يتساوى فيها جميع المواطنين بالحقوق والواجبات، ويقومون بالإصلاحات الأساسية التي من شأنها اقتلاع الفساد وصولا الى الحكم النزيه، فإن انتخاب رئيس للجمهورية في المستقبل القريب أو البعيد عبر تسويات سياسية مؤقتة لن يكون الا بمثابة هدنة جديدة تنزلق بعدها البلاد الى مزيد من التقاتل والخراب.