بقلم: مينا بشير
و إنَّ منَ النَجاحِ ما قتَل! لا شكَّ أن الإنجازاتِ المُتَتاليةِ هي إكسيرُ النَشوة، أو يُمكِنُ القَولُ أنَّها غَريزةٌ طَبيعيةٌ في النَفسِ البشَرية. لا أحدَ منا يُريدُ أن يُغادِرَ هذهِ الحَياةَ دونَ تَركِ أثَرٍ خَلفَه، فنحنُ كائِناتٌ شبه مَهووسةٌ بتَركِ البَصَماتِ حيثُما نذهَب، نَوَدُّ أن يكتُبَ التاريخُ أسمائَنا على صفَحاتهِ و لو بالماء. المُشكِلةُ تَكمُنُ في الجوعِ الدائمِ للإنجازِ و النَجاح، فبَعضُ الأشخاصِ يَرفَعونَ رؤوسَهم طَوالَ الوَقتِ حتى توشِكَ رِقابُهُم على الانكِسار. هناكَ مَجاعةُ إنجازاتٍ ضَخمةٌ تَجتاحُ العالَم، هناكَ جَفافٌ في التَقديرِ الذاتي و أفولٌ في هالةِ القيمةِ التي نُحيطُ بها ذَواتَنا. أصبحَ العالَمُ سوقًا كَبيرةً لعَرضِ الإنجازاتِ و الأحلامِ المُحَقَّقة. أصبَحنا نُسابِقُ عَقارِبَ الساعة و نَبذُلُ كل ما نَملِكُ لنَحجِزَ القِمّةَ بأسمائِنا. أصبحَ إنسانُ العَصرِ جائِعًا على الدَوام، يَخنقُ نفسهُ بقائِمةٍ طَويلةٍ من الطُموحات، و يَرتَدي نَظّارةَ السخطِ تجاهَ النِعَمِ من حَولهِ و تجاهِ ما بلَغَه. يَظَلُّ يُطالِبُ الحياةَ بالمَزيد، بمَزيدٍ من الإنجازاتِ و التَكريمات، بمَزيدٍ منَ التَصفيق، بمَزيدٍ من الشَهادات. كأننا نَشرَبُ و نَشرَبُ و بُطوننا مَثقوبة.
في إحدى الأيامِ و أنا غارِقةٌ في تأمُّلاتيَ العَقيمة سألتُ نَفسي سؤالًا واحِدًا: “ تُرى لماذا نَلهَثُ دائمًا وراءَ الإنجاز؟ لماذا نُطارِدُ الوُصول؟” و بعدَ تَنهيدةٍ طَويلةٍ أدرَكتُ أن السَببَ يَكمُنُ في المُنافَسة. أصبحَ أبناءُ هذا الكَوكبِ مُنافِسونَ شَرِسونَ لأبعَدِ الحُدود، و تلك المُنافَسةُ غالِبًا ما تَنبُعُ منَ المُقارَناتِ المُستَمِرّة، إذ أننا أصبَحنا نُقارِنُ أنفُسَنا و تاريخَنا بالآخَرين أكثرَ بكَثيرٍ من ذي قبل. في هذا العالَمِ الحَديثِ و على مَتنِ هذا الكَوكَبِ العَصري جدًا، حيثُ تتَفَرَّعُ قنَواتُ التَواصُلِ من كل شاشةٍ و جِهاز، تتَفَرَّعُ مُلتَفّةً لتُحاوِطَ أوقاتَ فَراغِنا و تَلتَهِمَها، باتَ المَرءُ أكثرَ عُرضةً للمُقارَنات، مما يَدفَعهُ للجَري دونَ تَوَقُّف كالقارِضِ على عجَلةِ الإنجاز، مُحاوِلًا التَفَوقَ على أقرانهِ و إثباتَ قيمَته. هذا ما استَنتَجتهُ عند قِرائَتي لقصّةِ الكاتِبة و الشاعِرة الأمريكية سيلفيا بلاث.
استَوقَفَتني هذه القِصّةُ كَثيرًا. كاتِبةٌ مَوهوبةٌ منذُ شَبابِها و نُعومةِ أظافِرِها، حصَلَت على مِنحةٍ دِراسيةٍ من جامِعةِ سميث الأمريكية نَظيرَ بَراعَتِها و حِسِّها الأدَبي المُرهَف. و فوقَ ذلك تَمَّ نَشرُ قَصائدِها في عددٍ من المَجَلّأتِ و هي ما تزالُ في الثامِنةِ من عُمرِها. كتَبَت الكَثيرَ من القَصائِدِ الرائِعةِ التي اختَرَقَت شِغافَ القُلوبِ بجَدارة، إلا أنها لم تَكُن راضيةً بأقَلَّ من المِثالية. إذ أنها دائِمًا ما كانت تَكتُبُ عن المَشاعرِ السَلبيةِ التي تَعتَريها في مُذَكِّراتِها الشَخصيةِ التي نُشِرَت بعد وَفاتِها. وَصَفَت سيلفيا شُعورَ الغيرةِ و تَدميرِ الذات بدِقّةٍ بالِغة، حيثُ كتَبَت عن نَفسِها: “ أنا أغارُ من كُل مَن يُفَكِّرُ أفضَل، يَكتبُ أفضَل، يَبدو جَميلًا أكثرَ مني.” لطالَما استَوقَفَني هذا السَطرُ بالتَحديدِ مُجَمِّدًا قسَماتِ وَجهي. فكيفَ لامرأةٍ راقيةٍ و مَوهوبةٍ كسيلفيا أن تُقارِنَ نفسَها بالآخَرين؟ ثم تَوَصَّلتُ إلى حقيقةِ أن جَميعَ الأشخاصِ مُعَرَّضونَ لشُعورِ الغيرةِ و جَلدِ الذات، مهما بلَغَ ذَكاؤهم أو مَوهِبَتُهم.
نَعودُ إلى قصّةِ سيلفيا بلاث، تلك الكاتِبةُ
و الشاعِرةُ المُبدِعةُ التي كتَبَت آخِرَ سَطرٍ من حَياتِها بأنامِلِها في جَوفِ فُرنٍ مُتَّقِد. أرادَت كلَّ شَيء أو لا شَيءَ على الإطلاق، حَصَرَت نفسَها في شِقٍّ ضَيقٍ بين البَياضِ و السَواد و لم تَرضَ باللَونِ الرَمادي. في عامِ 1963 أقفَلَت سيلفيا بابَ المطبَخِ بعد تَفَقُّدِها لطِفلَيها في سَريرهِما، ثم تناولَت الأقراصِ المُنَوِّمةِ و أدخلَت رأسَها في الفُرنِ المُشتَعِل، حيثُ كانَ الغازُ يَصفَعُ وَجهها الشابَّ بهِمّة. و هكذا انتَحَرَت سيلفيا.
إنَّ سيلفيا بلاث و رغمَ رَفضي لما قامت به من التَخَلُّص من حَياتها بتلك الطريقةِ نَموذَجٌ مِثاليٌّ لمُتَلازِمةِ تَعَدُّدِ الأدوار، إذ أنها أرادَت أن تكونَ كاتِبةً و شاعِرةً و زَوجةً و أمًّا و رَبَّةَ مَنزلٍ مِثالية، أبَت إلا أن تلعَبَ كل هذه الأدوارِ في وَقتٍ واحِد. هذه هي مُشكِلةُ العَصرِ يا سادة، إذ أن أغلبَ شَبابِ هذا العَصرِ يُهدِرونَ الساعاتِ في مُراقَبةِ إنجازاتِ أقرانِهم على مَواقِع التَواصُل، تَلتَهِمُهُم الحَسرةُ و يَعتَريهِم ذلك الشُعورُ الذي يُخبرُهم أنهُم ليسوا كِفاية. فيَدفَعونَ أنفُسَهُم في دَوّامةِ الإنجازِ و يُرغِمونَ ذَواتهم على لعِبِ أدوارٍ كَثيرة، و إذا فَشِلوا في تحقيقِ رغَباتهم غيرِ المَنطِقية فإنَّهُم يَعودونَ إلى مُقارَنةِ أنفُسِهم بغَيرهم. إنها حَلَقةٌ ناريةٌ مُفرَغة، هُوّةٌ دونَ قاع.
حتى يَخرُجَ المَرءُ من هذه الهُوّةِ لابُدَّ لهُ أن يُعيدَ تَعريفَ القيمةِ في قاموسِه. أغلَبُنا يَعتَقِدُ أن قيمةَ الإنسانِ مُرتَبِطةٌ ارتِباطًا وَثيقًا بكَمّيةِ إنجازاتهِ و عددِ الألقابِ الفَخريةِ التي استَطاعَ أن يَجمعَها في مُدّةٍ قياسية، و هذا تَعريفٌ خاطِئ. إنَّ قيمةَ المَرءِ تَتَجَسَّدُ في كَونهِ مَخلوقًا مُكَرَّمًا من مَخلوقاتِ الله. فإذا ذَكَّرَ الإنسانُ نَفسهُ أنهُ خَليفةُ الله على هذه الأرض، سيَرتَفِعُ مَنسوبُ تَقديرهِ لنَفسهِ و سيَتَلاشى شُعورُ الغيرةِ تِلقائيًا. على الإنسانِ أن يَخلَعَ عنهُ كل ألقابهِ و أوسِمَتهِ و شَهاداتهِ و يَقِفَ أمامَ حَقيقتهِ العارية، و هي حَقيقةُ وُجودهِ و غايَته، عندَها فقط سيَصِلُ إلى ذُروةِ الاتِّزان ألا و هي الرِضا.
لا أقولٌ هنا أننا يَجِبُ أن نَرضى بهَامِشِ الحَياةِ أو نَتَقَبَّلَ السُقوطَ في الهاوِية، لا أقولُ أننا يَجِبُ أن نَقتُلَ رَغبةَ الإنجازِ التي تَعتَرينا، على العَكسِ تَمامًا. إنَّ الطُموحَ شَيءٌ جَميلٌ يَرتَقي بالمَرءِ إلى مَنازِلَ مَرموقةٍ و يَرفَعهُ عن سَفاسِفِ الأمور، لكننا يَجِبُ أن نُوازِنَ بينَ الطُموحِ و الرِضا، ذلك هو الإنسانُ السَويُّ المُتَّزِن: طَموحٌ راضٍ. في تلك البُقعة، حيثُ تَلتَقي زَوبَعةُ الطُموحِ بسَكينةِ الرِضا، هناكَ تَكمُنُ السَعادة.