بقلم: محمد منسي قنديل
أراقب اختي نادية وهي تحاول أن تسير أمور حياتها بمزيج من الشفقة والاعجاب، رغم أن ما تقوم به ليس غريبا عما تفعله ألاف السيدات المصريات في كل يوم وكل دقيقة، ففي ظل الظروف الصعبة، وهي دائما صعبة، تصبح المرأة هي عمود البيت، وتضطر لبذل جهدا مضاعفا يستهلك معظم عمرها، دون مسرة، ودون متعة حقيقية، فقط لبقاء أسرتها على قيد الحياة، تعمل نادية في قسم التأمينات بمصنع السجاد، مصنع صغير ولكنه نادر، يعتمد على المهارات اليدوية لعماله في كل منتجاته، فهو ينتج سجادا يدويا عال القيمة، أنواعا نادرة من المفارش والأوبيسن والتابلوهات، وكلها تتطلب جهدا إنسانيا يأخذا ثمنا مضاعفا من صحة العاملين فيها، فعمال التطريز ينكبون لساعات طويلة على عمل الغرز الدقيقة حتى يذهب معظم بصرهم، ويعاني العاملون على السجاد من اثر الامواس الحادة والتي تملأ أكفهم وتشوه اصابعهم بالجروح الغائرة، ومن المؤسف أن هذا المصنع على صغره وندرة منتجاته يقف على حافة الإفلاس، ليس فقط بسبب المنتجات الصينية التي تغرقه وتغرق العالم كله، ولكن لأنه مستهدف من الفاسدين من أركان النظام، يتداعى بسبب النهب المنظم الذي يمارسه ضده هؤلاء المسئولين ، ففي كل مرة يزورهم مسئول مهم، يتفقد المصنع متظاهرا بأنه يريد الشراء، ومستعدا لدفع ثمن ما يشتريه، ولكنه يأخذ عددا من المفروشات وقطع السجاد ليجربها ويرى إن كانت تتلائم مع ديكورات منزله، ثم يتناسى أن يعيدها وأن يدفع ثمنها، وهكذا في ضربة واحدة يسلب مسئول واحد شهورا من عرق العمال وجهدهم، معتمدا سلطته وأنه لايوجد من يجرؤ على مطالبته، حدث هذا قبل الثورة ومازال يحدث، لأن الثورة لم تطهر شيئا من فساد الإدارة المصرية، ومازال المصنع الصغير مطالبا بتوفير أجور عماله ودفع ثمن الخامات التي يستخدمها وينوء بالضرائب التي تتراكم، ولكنه مصدر الدخل الوحيد لعائلة نادية وغيرها من عشرات العائلات، وهو مهدد دوما.
والمصنع ليس مشكلة نادية الوحيدة، فهي سيدة مصرية تعشق بيتها وأولادها، ولا تنسى أن تشتري في طريق عودته كل يوم الخضار والطعام ، ودون فرصة للراحة تقوم بتنظيف الخضار وتجهيزه للطهي، وللعلم فالخضار في مصر من أقذر الخضروات في العالم، ويأتي محملا بكمية من طين الحقول، وقد اغمى علي بالفعل وأنا اشاهد المزارعين في كندا يغسلون البطاطس قبل بيعها للزبائن، المهم أن نادية بعد تقديم الطعام وغسل المواعين تجلس للمذاكرة مع بناتها، ولا يخلو الأمر من درس خصوصي، ولأن الشوارع في مصر أيضا غير مأمونة على البنات، عليها أن تنزل لتوصلها وتعود بها مرة أخرى، هل تحدثت عن الغسيل وتنظيف المنزل؟ أو نزولها إلى أمي رحمها الله التي تسكن تحتها لتؤدي طلباتها؟ على أي حال هذا يوم عادي من أيام نادية مثل آلاف السيدات المصريات، اللاتي يشتغلن “كعب داير” من الصباح لمنتصف الليل تقريبا، وفي كل هذا تدبر أمورها وتحسب حسبتها في مصروف البيت الضئيل ليعدي الشهر على خير.
لذا كان غريبا أن أرى نادية بعد هذا المجهود المضني وهي تقف مع مثيلاتها من الأمهات المصريات في طوابير طويلة أمام لجان الاستفتاء، لقد رفعت المرأة رأسها قليلا من هذا الهم المعيشي لتدخل إلى الهم السياسي، لقد سمحت هاتي الامهات بإرسال بناتهن إلى ميادين التحرير للمشاركة في الثورة، لم يخيفهن العنف الذي تصرف به زبانية النظام السابق، ولا بتشويه السمعة الذي يمارسه النظام الحالي بواسطة شيوخه ومؤيديه ،وهم جميعا شيوخ شتامين لا تعوزهم البذاءات، ولكنها هبطت بنفسها هذه المرة، ووقفت طويلا متحلية بالصبر المصري المعهود، ولديها أسبابها الخاصة، فهي أولا تريد أن ترفع عن نفسها وصاية القوى الدينية التي استولت على ذهنها طويلا، فقد استمعت لشيوخ الإخوان والسلف وهم يربطون بين موافقتها على الدستور ودخولها للجنة، وعد غامض دون إبداء الأسباب، ودون أي أن يذكروا لها ماذا قدم الدستور حتى يحافظ على إنسانيتها، في الوقت الذي كانت القوى المعارضة تكشف لها عن النوايا المضمرة في ثنايا الدستور، تأمين صحي غير مضمون للفقراء، خطة غامضة لمجانية التعليم، وعدم تحديد أي سن لزواج القاصرات وعدم الحظر على عمل الاطفال، وترك الحد الأعلى للأجور مفتوحا، ولا يوجد التزام حول اي حق من حقوقها، ففي منطق الذين وضعوا الدستور، مثلهم في ذلك رأي بقية شيوخ التيار الديني أنها خلقت من ضلع أعوج، وهي ناقصة عقل ودين، هذه بعض الشذرات التي التقطتها المرأة وهي التي دعتها للنزول، فهذا التيار الذي تسلط عليها باسم الدين، بدلا من أن يمنحها أملا في مستقبل مختلف وضع عليها المزيد من القيود، جعلها ترفض الرعب الذي سلطه عليها المشايخ طويلا، من أنها عورة متحركة يجب نفيها من المجتمع إلى مكانة متدنية وهامشية.
والسبب الثاني هي رفضها للخداع، فقد أنبأها حسها الغريزي أن هناك خدعة ما تمارس ضدها، والمرأة تتحمل اشياء كثيرة، مثل ضيق ذات اليد، وتحملها للمسئولية وحدها بسبب سفر الزوج أو انشغاله في العمل، ولكنها أبدا لا تتحمل الكذب والخداع، وقد استمعت للأنباء التي تؤكد أن معظم قضاة مصر قد قاطعوا الإشراف على الاستفتاء، فقررت النزول لتتأكد بنفسها، وزاد من شكها رفض بعض المشرفين دخول المراقبين لداخل اللجنة، ورأت في ذلك استمرار لمسلسل الغش الذي مارسته عليها كل الأنظمة، لذلك قررت أن تقيم انتخابات نزيهة بطريقتها الخاصة، لهذا صبرت على الوقوف، وأصرت بعد دخولها على الطلب من القاضي أن يبرز هويته، وعندما كان يرفض كانت تذهب لقسم الشرطة لعمل محضرا بالواقعة، لحظة صدق لا تقدر عليها إلا امرأة شقيانه، تحاول التأكد من أن صوتها سوف يصان، لن يزيف أو يبدل، كما يحدث في العادة.
السبب الثالث هي احساسها أن ولادة هذا الدستور كانت مشبوهة، بالطبع فإن معظمهن لم يقرأنه، وحتى لو فعلن فلن يفهمن شيئا بسبب أسلوبه الركيك، ولكنهن استمعن إلى المناقشات التي دارت على شاشة التلفزيون، وشاهدن المسيرات النسائية ترفع شعارات الاعتراض، فاختيار اعضاء اللجنة التأسيسية كان يحوطه الشكوك، قيل لها أنه يمثل كافة تيارات الشعب، ولكنها أدركت، وهي ترى وجوههم واسمائهم ولحاهم الكثة، أنهم لا يمثلون إلا تيارا معاديا لها، وتضاعفت الشكوك وهي تتابع عملية ولادة الدستور، مناقشات عقيمة ومسودات متوالية، وزاد على ذلك كله انسحاب معظم الاسماء الوطنية المعروفة، وبالطبع لم يستطع أحد، سواء كان رجلا أو امرأة، أن يبلع مشهد الموافقة على الدستور، فقد شاهدت على مدى ليلة كاملة وجوه متعبة لرجال عجائز مصابون بتصلب الشرايين وتصلب الفكر ايضا، وهم يحددون معالم المستقبل في مصر، أي أسى واي عار، أن يكتب لأبنائهم من الشباب، الذين ثاروا وتصدوا واستشهدوا، دستورا على أيدي هذه الوجوه التائهة التي أنتهى عمرها الافتراضي، كيف يمكن ان توافق عليه اي مصرية أو أي مخلوق، لقد هبطت أختي نادية وسط حشود النساء المصريات لتقول كلمتها، لاتهمها نتيجة الاستفتاء، ولا تأسيسية العجائز، فقد قالت كلمتها التي ستغير كل شيء.