قصة بقلم: شريف رفعت
يخرج من منزله صباحا متوجها لعمله، أصبحت وظيفته عبئا ثقيلا عليه، يقارن بطريقة لا شعورية ـ كما فعل مئات المرات من قبل ـ بين منزله و حياته الخاصة التي غادرها منذ لحظات بدفئها و نظافتها و حميميتها و مشاعر الحب الجارفة بينه و بين زوجته و ابنته من ناحية و بين مكان عمله، نقطة الشرطة بقسوتها و قذارتها و مشاعر الخوف و الكراهية التي تحتويها و غباء كل من فيها. استولت عليه أفكاره السلبية هذه تجاه عمله في الفترة الأخيرة، ببساطة شخصيته لا تتفق مع متطلبات وظيفته. المشاة في الشارع حوله ينظرون إليه في بذلته الرسمية، أكيد مشاعرهم نحوه و نحو بذلته متباينة، البعض يعتبرهما ـ هو و بذلته ـ رمزا للقسوة و الظلم و الافتراء، بينما قد يعجب البعض بها عن سذاجة و جهل باعتبارهما حماة المجتمع تمشيا مع الشعار السخيف الكاذب «الشرطة في خدمة الشعب».
يمشي بشيء من التيه احتراما لبذلته، يشير بطريقة سلطوية لسيارة أجرة فتقف له صاغرة، سائقها يخفي امتعاضه فأول زبون له «حكومة» لن يدفع له أجرة، يقول له بلهجة مؤدبة متصنعة:
ـ صباح الخير يا باشا.
لا يرد تحيته لكنه يخبره عن وجهته بلهجة متعالية محسوبة.
يجلس في المقعد الخلفي مع أفكاره، كل شيء في حياته بسبب وظيفته أصبح محسوبا، طريقة مشيته في الشارع، لهجته عند التحدث مع الغير. راودته فكرة الاستقالة للمرة الألف، لا تبدو منطقية في الوقت الحالي، فمعاشه من وظيفته صغير بسبب رتبته، كان قد قرر من قبل أن يستقيل بعد الترقية القادمة، حيث سيكون راتب تقاعده و رتبته وقتها معقولان، يستطيع بعد ذلك أن يجد وظيفة مناسبة في الحياة المدنية، المهم أن يترك الشرطة و متاعبها و بذلتها الرسمية التي أصبحت جزءا من شخصيته، كم يكره هذه البذلة الرسمية بقيودها و ما ترمز له في ذهن الناس، الناس، الشعب، المواطنين ترى كيف ينظرون للشرطة و لأفرادها، مر بخاطره الصعوبات التي تعرض لها حين تقدم لخطبة زوجته، كان لأسرتها تحفظات على كونه ضابط شرطة، كما لو كانت الشرطة بالنسبة لبعض الطبقات المميزة اجتماعيا تتعارض مع الرقي و الأدب و كل ما تعتنقه هذه الطبقات من مبادئ و أفكار، لولا أن علاقته بزوجته وقتها كانت مبنية على معرفة و حب لما تم الزواج. أكيد سائق سيارة الأجرة وقف له و سمح له بالركوب الذي يعلم تماما أنه مجاني بسبب بذلته هذه، رمز القانون و القوة و التسلط و البطش. يتذكر ،منذ عدة أشهر مضت عندما صدرت تعليمات لضباط الشرطة بعدم ارتداء الزي الرسمي، وقتها استهدف الإرهابيون رجال الشرطة فكانت التعليمات لحمايته و زملاءه من إنتقام الارهابيين.
وصلت السيارة لقسم الشرطة، نزل منها، تردد قبل نزوله، هل يشكر السائق أم لا؟ قرر لا، فشكره للسائق يتعارض مع وظيفته و بذلته الرسمية اللتان يجب أن يفرضا السطوة على عامة الشعب.
دخل مكتبه، قام ببعض الأعمال المكتبية الروتينية، دخل عليه رئيسه يتبعه شرطي يقود أحد المحتجزين، رئيسه برتبة رائد، يمثل الضابط المثالي الذي تحتاج له وزارة الداخلية بفحشه و فجره و لا إنسانيته، أشار إلى الرجل المحتجز و سبه سبابا قاذعا ثم قال:
ـ ابن العاهرة هذا متهم في قضية أمن قومي، يدعي أنه شاعر و زعيم وطني، أريدك ان تأخذ اعترافاته، لو لم يتعاون معك طَلّـَع دين أمه.
يعلم أن هناك شعورا عاما عند رؤسائه بأنه ليس حازما بما فيه الكفاية مع المتهمين، و حازم في مفهومهم تعني قاسي و لا إنساني، شعر بأن رئيسه يرغب في اختباره، قام متثاقلا، وجه بدوره بعض السباب للرجل قبل أن يهدده إذا لم يتعاون معه بخصوص اعترافه، أجاب الرجل محتجا:
ـ أعترف بماذا؟ هذه تهمة ملفقة و الداخلية تعلم هذا تماما.
استجمع قوته و لطم الرجل على وجهه بظهر يده، سال الدم من فم الرجل و أنفه، نظر له الرائد راضيا و خرج من الحجرة يتبعه الجندي و قد إطمأن إلى أن الأمور تجري كما يجب.
أخذ يلهث انفعالا و هو ينظر إلى وجه الرجل الدامي، شعر بألم في يده و رأى دما عليها، ظنه دم الرجل من أثر اللطمة، لكن اتضح له أنه دمه هو من جرح في يده، واضح أنه عندما صُـفـِـع الرجل كان فمه مفتوحا فجرحت أسنانه يد الضابط، شعر ببؤس شديد فها هو يلطم رجلا في الغالب برئ و حتى اللطمة لم تكن بارعة فجرحت يده هو أيضا، عليه الآن أن يبدأ في استجواب لعين لرجل بائس. الرجل على وجهه علامات التحدي و شيء من اللامبالاة، واضح انه مر بهذه المواقف من قبل، أخذ من على مكتبه منديلا ورقيا مسح به الدم من على يده، أعطى منديلا آخر للرجل و قال له بلهجة آمرة:
ـ امسح الدم من على وجهك.
أشار الرجل إلى يده المجروحة، سأل بشيء من السخرية الخفية:
ـ أدمك هذا أم دمي.
لم يرد عليه، فتح ملفا على مكتبه خاصا به، نظرة سريعة عرف منها أنه شاعر معروف إلى حد ما، له ميول يسارية و له وقائع سابقة مع الشرطة، و أنه سجن عدة مرات أحدها امتدت لثلاث سنوات، لا شيء هام أو خطير، لكن أخيرا كتب قصيدة فاحشة في رئيس البلاد فكان يجب تلقينه درسا، لذلك وجهت له تهمة تكوين تنظيم سري يعادي البلد و يعمل على قلب نظام الحكم.
طلب من الرجل الجلوس، سحب هو مقعدا و جلس قريبا منه، قال له بلهجة حاول أن يجعلها حازمة:
ـ الأفضل لك أن تعترف، سأحضر الشاويش لكتابة اعترافاتك، و إلا ستحول للمخابرات العامة حيث تعرف تماما ماذا يمكنهم أن يفعلوا معك.
رد الرجل:
ـ أنت و رؤساءك و وزيرك تعرفون أني برئ، تكوين تنظيم شيوعي في أيامنا هذه؟ هذا هراء، لم يعد في البلد شيوعيون كي يكونوا تنظيما، الناس إما مخبولون دينيا، أو مغيبون، و تصممون أني أحاول أن أكَوِن تنظيما شيوعيا.
الضابط شعر أن الرجل محق في كلامه، بينما المتهم ـ لطول خبرته مع الشرطة ـ شعر أنه أمام ضابط مختلف عن الباقين، إنسان إلى حد ما، لذلك حاول استغلال طبيعة الرجل هذه لصالحه، قال شاكيا:
ـ الشرطة دمرت حياتي، بسبب دخولي السجن عدة مرات لأسباب ملفقة انفصلت زوجتي عني، تزوجت من آخر، ابني اضطر أن يعيش مع أمي و هي عجوز و تعاني من الأمراض، الشرطة و الداخلية دمروا حياتي و الآن يريدونني أن أعترف بجريمة لم أرتكبها.
شعر الضابط بتعاسة، لم يدر ماذا يفعل، قال للرجل:
ـ كما ترغب ، إذا كنت لا تريد الاعتراف سأرسلك الآن لزنزانتك و في الغد ستـُـحـَوَل إلى المخابرات و أنت تعلم أساليبهم في التعامل مع أمثالك.
حضر الشاويش لاصطحاب المتهم الذي قال للضابط و هو في طريقه للخارج:
ـ عاوز منك خدمة، بلغ والدتي في الزيارة القادمة أن تحضر ابني معها، لم أره منذ أن قبض علي.
ذُهل الضابط من طلب الرجل، لماذا طلب منه المساعدة، هل مكتوب على ملامح وجهه الطيبة و المروءة.
ثم و هو على الباب و قبل خروجه مباشرة أضاف:
ـ سَلِمْ لي على سناء، قل لها أني سامحتها و أني ما زلت أحبها.
جلس على مقعده منهكا قانطا، أكيد رئيسه لن يكون سعيدا لفشله في انتزاع الاعتراف من المتهم، و ماذا عن الخدمتين اللتين طلبهما الرجل منه؟ هل بإمكانه أن يساعده أم من الأضمن إهمال الموضوع.
أخوه الأصغر مهتم بالقراءة و الأدب و الشعر، اتصل به و سأله:
ـ ماذا تعرف عن عدلي يوسف؟
أجاب أخوه مازحا:
ـ لماذا؟ هل هو ضيف عندك؟
ـ نعم و أرغب أن أعرف المزيد عنه غير التقارير الرسمية.
ـ هو شاعر، أنا أعتبره موهوبا، عين في بداية حياته مدرسا في كلية الأداب، لكنه تركها و تفرغ للشعر، و قد يكون دُفِع لترك وظيفته بسبب ميوله اليسارية، له ديوانين شعر يعتبران مثالا على الشعر السياسي، طبعا يهاجم فيهما النظام و طبعا سحبا من السوق، سُجِن عدة مرات، أغلب من كانوا أصدقاءه ابتعدوا عنه بسبب متاعبه الأمنية. ماذا حدث له أخيرا؟
أهمل سؤال أخيه، و سأله:
ـ من هي سناء؟
ـ سناء فضل كانت تلميذته في الجامعة، تزوجا بعد قصة حب، أنجبا ولدا، لكن عندما كثر تردده على السجن و بالذات عندما سجن ثلاث سنوات، طلبت منه الطلاق، البعض في الأوساط الأدبية اعتبر انها تخلت عن زوجها وقت الشدة، البعض الآخر تفهم موقفها، كانت هناك إشاعات أن الطلاق حدث بسبب مضايقات الشرطة لها هي شخصيا. منذ حوالي أربع سنوات تزوجت من محامي معروف و تعمل حاليا في وزارة الثقافة.
أنهى يومه و هو شارد الذهن، عندما عاد إلى منزله قرر أن ينسى أحداث يومه، أخذ يلاعب ابنته، ثم تناول رواية كان قد بدأ في قراءتها و امضى معها ساعتين هادئتين، عندما نامت الصغيرة جلس مع زوجته يتحدثان و يستمعان إلى الموسيقى، كان يحاول أن يعوض أحداث يوم عمله المتدنية بجرعة من الرقي و الحب و الجمال.
صباح اليوم التالي اتصل بنقطة الشرطة مبكرا و أخبرهم أنه سيحضر متأخرا بسبب قيامه ببعض التحريات، ثم طلب من أحد أمناء الشرطة أن يبحث له عن عنوان سناء فضل و عدلي يوسف.
خرج من منزله و توجه أولا لعنوان سناء، كان يود أن يتحدث إليها عند خروجها من منزلها متوجهة لعملها، خرجت من المنزل لكنها لم تكن بمفردها، كان معها زوجها و إبنة في حوالي الثالثة، نفس عمر ابنته، لاحظ أنها حامل، دخلت الأسرة عربة الزوج و انطلقت بهم، أوقف سيارة أجرة و أمر السائق أن يتبع سيارة الزوج، توقفت السيارة أمام إحدى دور الحضانة، نزلت سناء و معها البنت، قبـّلَتْها أدخلتها الحضانة، أوصل الزوج سناء لعملها و انطلق بالسيارة. انتظر هو حوالي ربع ساعة ثم صعد لمقر عملها، تحولت أنظار جميع العاملين نحوه فمنظر ضابط شرطة بزيه الرسمي منظر ليس مألوفا في المكتب. وقف أمامها و قد رسم على وجهه ابتسامة رقيقة، عرفها بنفسه، فنظرت إليه نظرة مندهشة،قال لها:
ـ عندي رسالة لكِ من عدلي.
تحولت دهشتها لغضب، صاحت به:
ـ ليس من حقك أن تحضر لمكان عملي كي تتحدث معي في شأن شخصي مثل هذا، ثم أن هذا الموضوع قد انتهى من حياتي، لو تسمح تغادر المكتب.
تمتم معترضا على غضبها:
ـ أنا أحاول أن أساعده.
لكنها استمرت في صياحها غير مبالية لا بكونه ضابط شرطة و لا بأنظار زملائها في المكتب، غادر المكان محرجا من صياحها و من الموظفين الذين بدا عليهم الاستمتاع بالموقف.
انصرف سريعا و هو محبط من فشله، لكن رغم الاحباط كان هناك في أعماقه إعجاب بالمرأة التي رفضت التحدث معه و ثارت عليه، هناك إذن في مصر شخص لا يعبأ ببذلته الرسمية و ما تمثله من سلطة و تسلط.
ذهب إلى عنوان والدة عدلي يوسف كي يبلغها رسالته بخصوص ابنه، سأل بواب العمارة عنها فأبلغه إنها بسبب حالتها الصحية نقلت للمستشفى من يومين، توجه للمستشفى، سأل عنها، أخبروه أن حالتها خطرة و أنها في العناية المركزة، أخبروه أيضا أنه أول شخص يزورها أو يسال عنها و أنهم ليسوا متأكدين أنها ستخرج سالمة من هذه المحنة.
خرج من المستشفى مصابا باكتئاب، حتى محاولته أن يساعد شخصا ـ واضح أن الشرطة بغبائها و قسوتها تظلمه و تدمر حياته ـ باءت بالفشل. سأل نفسه “هل سبَبَتْ معاناة عدلي يوسف على يد الشرطة المشاكل الصحية التي تمر بها أمه؟”.
عاد إلى قسم الشرطة، توجه إلى مكتبه، كتب استقالته و قدمها لرئيسه، قرأ الرجل الاستقالة، ظهر على وجهه ملامح عدم الرضا، نظر اليه مليا و سأله:
ـ هل الاستقالة بسبب التطورات الأخيرة، هذا إذا هروب من المسئولية.
سأله:
ـ أي تطورات.
ـ هناك بيان وصلنا صباح اليوم مفاده أنه من المتوقع أن تزداد أنشطة الإرهابيين مرة أخرى، طلب منا ألا يرتدي الضباط الزي الرسمي تحسبا لأي محاولات اغتيالات.
ـ أؤكد لك أن الفكرة تراودني من فترة، أنا لم أعلم بالبيان الذي تتحدث عنه.
لم يدر إذا كان الرجل صدقه أم لا و لم يهتم.
انصرف وقد طغي عليه شعور غامر بالارتياح، خرج إلى الطريق الذي بدا جميلا على غير العادة، هذا إذا آخر عهده بقسم البوليس و بالزي الرسمي المقيت، لا يدري بعد ماذا سيفعل بحياته و لا يهم، المهم أنه سعيد و راضي عما فعل، سأل نفسه “هل تأخرت في اتخاذ هذا القرار؟”.
سمع خلفه صوت دراجة نارية، الصوت يقترب، تبعته صوت طلقة نارية و ألم جارف في كتفه، صوت طلقة أخرى أطلقت عن قرب، بعدها أظلمت الدنيا و سقط على الأرض.