بقلم: محمد منسي قنديل
حيث لا خوارق، ولا آلهة غاضبة تصب لعناتها على البشر، ولا أبطال يتحدون قوى الطبيعة، لا محيطات ثائرة او براكين متفجرة، بعيدا عن كل هذه المفردات الأسطورية الأثيرة، ودون مبالغة، تتسلل الحكاية في تراثنا الشعبي لتحكي عن بشر اقل أهمية، ولكن مايميزهم أنهم يعيشون فوق تضاريس الأرض نفسها التي نعيش عليها، ويتصرفون بطريقة تشبهنا، ويقعون في الاخطاء نفسها، بالطبع يوجد في هذه الحكايات ملوك وأميرات ولكنهم اقل عظمة، فالملوك لا ينتصرون على طول الخط، وسرعان ما يعتذرون عن افعالهم الشريرة، والأميرات قلوبهن خفيفة، لا تتحمل برودة القصور طويلا وتحن لدفء الطرقات، يضعن آبائهن دائما في موقف محرج عندما يقعن في غرام الصعاليك، وحتى عندما يتم سجن اي أميرة في برج عال تكتفي بأن تدلي بشعرها الطويل من النافذة ليصبح سلما يتسلق عليه عشيقها، وفي الحكاية الشعبية توجد ساحرات أيضا، شريرات حقا، ولكن شرهن ليس مطلقا، تكفي تعويذة بسيطة، حجاب أو رقية، للقضاء عليهن، وهناك ابطال، شطار، وأحيانا عيار، أي لصوص نبلاء، ليسوا موفوري القوة ، لا يقوون كثيرا على مجالدة السيوف، ولكنهم يعوضون ذلك باستخدام العقل واللجوء إلى الحيلة، والتنكر والخداع هما أمران مشروعان في العديد من الحكايات، وللحيوانات نصيب كبير ومكانة ملحوظة، فهي تتكلم وتناقش وتتداخل في صنع الأحداث، الببغاء فصيح والبقرة حكيمة والفيل ضخم ولكنه أبله والثعلب ماكر والأسد شجاع ولكن من السهل خداعه.
ولأن الحكاية الشعبية نبت شيطاني دون مؤلف محدد، فهي ملك للجميع، راويها هو مؤلفها، مادام قد امتلك ناصيتها فمن حقه أن يبدل احداثها ويضفي هالته على الشخصيات التي تروقه، ليست نصا مقدسا ولا أحد يريد لها أن تكون، ففيها جماع الخبرات المتراكمة لأي شعب من الشعوب، وهي المخزون البدائي للمعرفة الشعبية بكل ما فيها من طقوس وتقاليد، وقد كانت وسيلة حميمة لنقل المعرفة عبر الأجيال، عندما تجلس الجدة في المساء لتحكي لأحفادها حدوته قبل النوم، فهي لا تثير خيالهم وتلون احلامهم فقط ولكنها تنقل لهم في ثنايا التفاصيل الصغيرة خبراتها الحياتية، وتطعم ذلك ببعض الأمثال والأغنيات القديمة ، وبذلك يظل هذا التراثي الشفهي حيا ومتواصلا.
وتنقل الحكاية الشعبية أيضا المعرفة بين افراد الجماعة الواحدة في اعماق الريف وفي بوادي الصحراء، فهم يرددون الحكايات، ويطعمها كل واحد بجزء من خبرته، لا تحتوي على الأعراف والتقاليد فقط ولكنها تمتد لتفسر أحوال الطبيعة وتقلبات الكون، ويتكرر العمود الفقري في الحكاية الواحدة عند العديد من الشعوب المختلفة، رغم اختلاف لغتها وتباعد المسافات بينها، فالهم البشري يبدو واحدا، والصراع الأساسي بين الخير والشر لا يتوقف مهما اختلفت الأقنعة، والميزة الأساسية هنا هو الحفاظ على المغزى الأخلاقي، فالخير ينتصر دائما خلافا لما يحدث مع ابطال الأساطير الذين يسقطون لأنهم لا يدركون نقطة ضعفهم، أو كما يحدث في بعض نماذج الأدب والأعمال الفنية المعاصرة التي تحاول الابتعاد عن الحتمية الأخلاقية المباشرة، فالحكاية الشعبية تنحو دائما نحو التفاؤل، وينتصر فيها الخير على الشر، وتعلو قيم العدالة على دوافع الظلم، كأنها تحاول أن تعيد توازن الكون المختل وتتوافق مع قيم الفرد وتطلعاته.
وللحكاية وظائف عدة، فهي سلاح ناعم لا يملك المستضعفين غيره، يقاومون به مخاوفهم الشخصية من كل الظواهر التي لا يفهمونها ، والكائنات التي تنصبهم العداء، ربما يستطيعون أن يعرفوا نقطة ضعفها وينتصرون عليها، تقليد توارثوه من فعل الأنسان البدائي حين كان يرسم الحيوانات المخيفة على جدران كهفه ليأمن شرها، أنه يرسمها الآن على جدران ذاكرته، والحكاية ايضا مواجهة رمزية يسخر بها عامة الناس من الحكام والطغاة الذين يتسلطون عليهم، امثولة تلعب أحيانا دورا اقرب إلى النكتة السياسية، تأخذ من السخرية وسيلة للانتقام من المتعاظمين والمغرورين والفاسدين، لكن الأهم من ذلك أن الحكاية هي مخزن الأحلام، ترفعهم عن واقعهم البائس وتدخلهم إلى عالم من خيال، اين يمكن أن تقع اجمل الأميرات في حب حداد فقير وتصر على الزواج منه، او يقع الأمير الوسيم في غرام راعية الإوز، إلا في حكايات من هذا النوع، أحلام لا يمكن أن توجد على ارض الواقع، تذوب فيها الفوارق الطبقية، ودائما هناك معجزة مختبئة في مكان ما ، يكتشف الحطاب الفقير كنزا مخفيا، او يخرج جني محبوس من داخل المصباح ، ورغم أنه يمتلك القدرة على تحقيق كل الأمنيات لكنه يعجز عن انقاذ نفسه، يتجاوز الخيال الواقع المادي والزمني أيضا، يقدم نوعا من التعويض عن الحرمان المستدام، فهو الأصل في الفعل البشري، وما استخدام العقل إلا محاولة لجمح الخيال ومحاصرته، والخيال فطري ينطلق من وحي الرغبة والتوق والغريزة، ولكن العقل شيء طارئ من مكتسبات الخبرة والتجربة، وبينهما تكمن العواطف النابعة من الوجدان، والحكاية الشعبية عندما تحتفي بالخيال وترتكز عليه، فإنها تحتفي بمكون اساسي من مكونات الذات الانسانية الثلاث وهي الخيال والوجدان وقوة العقل، وللخيال جانبه الإيجابي فهو يحث الأنسان على محاولة تغير واقعه بدلا عن الاستسلام له، ولا ينفصل ذلك عن الوظيفة الأساسية للحكاية كأسلوب لمقاومة الظلم والواقع المفروض على الأنسان، فالخيال مقدمة الفعل الثوري للرفض، تعبير عن الشعور الجمعي الذي لا يتم التعبير عنه بصراحة وبصوت مرتفع، ولابد للخيال أن يتحرر من سجن الهمس والسكوت حتى يعلن عن ثورته وعن رغبته في تغير الواقع، ليس اصلاحه ولكن استئصاله بالكلية، وهذا سر بقاء الحكاية الشعبية رغم تطور التكنولوجيا الذي قضى عليها كطقس شعبي، فهي لازالت موجودة، تقاوم الانقراض لأن جزءا أساسيا منها يغذي عامل المقاومة عند الشعوب ويحافظ على هويتها، وفي مصر نحن في اشد الحاجة لتجميع هذه الحكايات واستقصاء الجانب الايجابي منها، في حاجة إلى فرق عمل تذهب إلى القرى النائية والنجوع التي تعيش فيها الجدات العجائز قبل أن ينقضي عمرهن وتضيع معهن الحكايات، لقد بذلت كثير من الجهود ولكنها لا ترتقي لمصاف الجهد العلمي المطلوب، ونحن في حاجة لمجلد ضخم يوثق الحكايات المصرية المخزونة في ذاكرة واحد من اقدم شعوب الأرض قبل أن يندثر تماما.