بقلم: د. خالد التوزاني
ننطلق في هذا المقال من تساؤلات نراها ضرورية في تناول الموضوع وهي: إلى أي حد يمكن اعتبار الدبلوماسية الدينية في المملكة المغربية، القائمة على المذهب المالكي والتصوف السني وإمارة المؤمنين، أداة إستراتيجية لتعزيز العلاقات المغربية–الإفريقية في ظل التحولات الجيوسياسية الراهنة بالقارة؟ وكيف تسهم المؤسسات الدينية المغربية في بناء نموذج مستدام للتعاون الروحي والعلمي بين المغرب وإفريقيا؟ ثم ما هي التحديات التي تواجه الدبلوماسية الدينية المغربية في إفريقيا، وكيف يمكن تجاوزها؟ وما أهمية المرجعية الدينية المغربية في مواجهة تهديدات التطرف الديني والحركات الراديكالية في إفريقيا جنوب الصحراء؟ وهل يمكن اعتبارها نموذجاً قابلاً للتصدير والتأصيل في البيئات الإفريقية المختلفة؟ وأخيراً، ما هي آفاق تطوير الدبلوماسية الدينية المغربية لتصبح رافعة متجددة للشراكات الإستراتيجية (التنموية، الأمنية، والثقافية) مع الدول الإفريقية في أفق العقدين القادمين؟ تعد هذه التساؤلات جوهر البحث في إشكالية الدبلوماسية الدينية المغربية في علاقاتها مع إفريقيا والعالم، حيث تحدد مختلف الظواهر والتحديات وأيضاً المكتسبات التي حققتها في تعزيز السلم والتعايش والوحدة، وهو ما يقتضي بحثاً ميدانياً للتحقق في فرضيات نجاعة هذه الدبلوماسية، غير أن كل بحث تطبيقي لا بد له من إطار نظري وسياق فكري يحدد مجاله العام وحدوده أيضاً ويبرز أهميته وآفاقه، إلى جانب رصد ما حققه من نجاح، ومثل هذه البحوث ينبغي أن تتبناها مؤسسات رسمية ضمن مشاريع بحث أكاديمية يتم تناولها من زوايا مختلفة، بحيث لا تقتصر على طلاب الدراسات الإسلامية بل تمنح الفرصة إلى كل طلاب العلوم الإنسانية وتطبيقاتها في كل المجالات من علم نفس واجتماع وتاريخ وجغرافيا وسياسة وقانون.. لأن كل تخصص يمثل زاوية نظر محددة، قد ترى ما لا يراه الآخرون، أو أهملوه، ومن ثم يُناسب هذا الموضوع ما يُعرف بالتأليف الجماعي المتعدد التخصصات والمتنوع الخلفيات المعرفية.
الدبلوماسية الدينية أداة إستراتيجية
تُعد الدبلوماسية الدينية المغربية ركيزة إستراتيجية متجددة في سياسة المغرب الخارجية تجاه إفريقيا، لأن المذهب المالكي والتصوف السني يمثلان نموذجاً دينياً وسطياً ومعتدلاً، مما يجعلهما أداة فعالة لمواجهة التطرف والمذاهب المتشددة التي تنتشر في بعض المناطق الإفريقية. كما أن إمارة المؤمنين تُعد رمزاً للوحدة الدينية والسياسية، وتعزز شرعية المغرب كمرجعية دينية موثوقة، لا سيما في دول غرب إفريقيا ذات الأغلبية المسلمة. وفي ظل التحولات الجيوسياسية، مثل تنافس القوى الدولية (الخليجية والتركية والغربية) على النفوذ في إفريقيا، تبرز الدبلوماسية الدينية كأداة “ناعمة” تعزز مكانة المغرب كشريك ثقافي وديني مستقر.
وهكذا، يمكن اعتبار الدبلوماسية الدينية أداة إستراتيجية فاعلة، لكنها ليست بديلاً عن الشراكات الاقتصادية والأمنية، بل مكمّلاً يعمق الثقة ويُسهّل التعاون في مجالات أخرى.
المؤسسات الدينية ركيزة أساسية
هذه المؤسسات تمثل ركيزة عملية لتجسيد الدبلوماسية الدينية المغربية، وإسهامها يتجلى في أن معهد محمد السادس لتكوين الأئمة: يقوم بتأهيل الأئمة والمرشدين من المغرب ودول إفريقية، مما يسهم في نشر نموذج ديني وسطي قائم على التسامح والانفتاح. كما يعزز التكوين المشترك أواصر التعاون العلمي، ويساهم في بناء شبكات دينية موحدة تُعارض الخطاب المتطرف.
أما مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة: فهي تجمع علماء من دول إفريقية مختلفة لتبادل الخبرات وإصدار فتاوى موحدة، مما يعزز الوحدة الدينية ويواجه الاجتهادات المتطرفة. وأيضاً تقوم بالسهر على تنظيم مؤتمرات علمية ومشاريع بحثية مشتركة يسهم في تأصيل نموذج مغربي–إفريقي للتعايش الديني.
ويعمل المغرب انطلاقا من مؤسسة إمارة المؤمنين على ضمان استمرارية هذا النموذج المؤسساتي بتعزيز التمويل الذاتي، وإشراك الخبرات المحلية الإفريقية في إدارة المؤسسات، وربط التعاون الديني بمشاريع تنموية ملموسة.
تحديات الدبلوماسية الدينية
تواجه الدبلوماسية الدينية المغربية عدة تحديات، أبرزها: التحديات السياسية: مثل وجود منافسة من نماذج دينية أخرى (كالنموذج التركي أو الشيعة). وأيضاً تأثير الخلافات السياسية مع بعض الدول (كالجزائر) على انتشار النموذج الديني المغربي. وهناك التحديات الفكرية والثقافية: مثل اختلاف المذاهب والعادات الدينية في بعض المناطق الإفريقية، مما قد يُصعّب قبول النموذج المغربي. ثم أخيراً ضعف البنية التحتية التعليمية في بعض الدول الإفريقية، مما يُقلل من تأثير المراكز الدينية المغربية.
وبخصوص سبل التجاوز الممكنة، فيمكن أن أقترح تعزيز الحوار الديني المشترك مع العلماء المغاربة والأفارقة وعبر العالم، وتكييف الخطاب الديني مع الخصوصيات الإفريقية. مع دمج الدبلوماسية الدينية مع مشاريع تنموية (كبناء مدارس ومستشفيات) لتعزيز الصورة الإيجابية للمغرب. والعمل على تطوير منصات رقمية لنشر المحتوى الديني الوسطي باللغات المحلية.
عالمية النموذج الديني المغربي
تقدم المرجعية الدينية المغربية بديلاً فكرياً وعقائدياً يرفض التكفير والعنف، ويعتمد على الفقه المالكي والتصوف السني، مما يلائم الثقافة الدينية في كثير من المناطق الإفريقية. وخاصة تجربة تكوين الأئمة التي أثبتت نجاعتها في وقاية الشباب من التطرف، كما في نيجيريا والسنغال ومالي.
إن هذا النموذج قابل للتأصيل في البيئات الإفريقية، شرط أن يتم تكييفه مع التنوع المذهبي والثقافي، وألا يُقدّم كمنافس للمذاهب المحلية، بل كإضافة تعزز الاعتدال والتواصل والتسامح.
وخلاصة القول، إن نجاح النموذج مرهون بمدى اندماجه مع السياسات الإقليمية والدولية لمكافحة التطرف، وشراكة المؤسسات الدينية المحلية.
الدبلوماسية الدينية رافعة للتنمية
لتحويل الدبلوماسية الدينية إلى رافعة إستراتيجية شاملة، يمكن العمل على التطوير المؤسسي: وذلك إنشاء مراكز بحثية متخصصة في الشؤون الإفريقية، تربط بين الدين والتنمية المستدامة. والعمل على تطوير عمل “مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة” لتصبح منصة لتنسيق السياسات الدينية بين الدول الأعضاء. وأيضاً ربط المشاريع الدينية بالاستثمارات الاقتصادية المغربية في إفريقيا، كأن تقوم الشركات المغربية بتمويل مدارس دينية. إلى جانب تعزيز التعاون الأمني من خلال برامج تدريبية للأئمة على مكافحة التطرف، بالشراكة مع الحكومات الإفريقية.
في أفق العقدين القادمين، يمكن للدبلوماسية الدينية أن تُسهم في إنشاء “اتحاد ديني إفريقي” بقيادة مغربية، يعزز الوحدة ويواجه التحديات المشتركة. وذلك بتطوير مناهج تعليمية مشتركة بين المغرب والدول الإفريقية، تُدرّس في المعاهد الدينية والجامعات.
خاتمة
تتبوأ الدبلوماسية الدينية المغربية مكانةً استراتيجيةً فريدة، لا تقتصر على كونها رصيداً ثقافياً فحسب، بل هي أداة جيوسياسية محورية تعزز موقع المملكة كقائد روحي وفاعل مركزي في الساحة الأفريقية. وترتكز هذه الديبلوماسية على ركيزتين أساسيتين: ضمان الوحدة الدينية والسلام المجتمعي داخلياً من خلال نموذج “الملك أمير المؤمنين”، ونشر قيم الاعتدال والسلم والتعايش إقليمياً عبر تأهيل الأئمة وتدريب الطلاب الأفارقة. إلا أن ضمان استدامة نجاح هذه السياسة يتطلب جملة من الآليات، أبرزها التطوير المستمر لمناهجها لمواكبة التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، وعدم اقتصارها على البعد الديني المحض، بل ربطها عضوياً بشراكات استراتيجية شاملة في مجالات التنمية المستدامة، والأمن الإقليمي، والتبادل الاقتصادي، مما يحولها من خطاب روحي إلى نموذج متكامل يجذب الشركاء ويعزز النفوذ المغربي في عمقه الأفريقي.
أخيراً، لا يمكن لهذه الدبلوماسية أن تبلغ كامل طاقتها دون توظيف حكيم للبحث العلمي الأكاديمي؛ فانخراط الجامعات ومراكز البحث المغربية في دراسة هذه الدبلوماسية يضفي عليه شرعية معرفية ويطور أدواته ومجالات تأثيره. من خلال إنتاج أبحاث رصينة، ودراسات ميدانية، وتحليلات جيوسياسية، يصبح بمقدور صانع القرار فهم التأثير الحقيقي لسياساته، واستشراف التحديات، واقتراح حلول مستنيرة. كما أن تحويل الدبلوماسية الدينية إلى حقل معرفي قائم بذاته يخلق جيلاً من الدبلوماسيين والباحثين المتخصصين، ويرسخ مكانة المغرب ليس فقط كفاعل ديني، بل كمنبع للفكر المعتدل والمعرفة التطبيقية في هذا المجال.