بقلم / مسعود معلوف
قد يجد البعض في عبارة “الدبلوماسية الصادقة” تناقضا أو تباينا إذ غالبا ما يعتقد الناس أن الدبلوماسية فيها مراوغة، وعدم اعتراف بالحقيقة، وما يؤكد هذا الإعتقاد عبارات مثل عبارة “جواب دبلوماسي” بمعنى انه جواب غير مقنع وفيه ابتعاد عن الحقيقة، أو عبارة “ابتسامة دبلوماسية” ما يعني ابتسامة مجاملة غير عفوية وليست صادرة بشكل طبيعي بل بشكل مصطنع.
معروف أن الدبلوماسية هي طريقة تعاطي الدول فيما بينها عبر التفاوض،وتبادل المواقف والأفكار،بواسطة ممثلين ينقلون وجهة نظر دولتهم الى المسؤولين في دولة أخرى، وغالبا ما يعرف هؤلاء الممثلين بالدبلوماسيين سواء كانوا سفراء أو من رتبة دبلوماسية أخرى.
في الماضي، وقبل تطور وسائل الإتصال، كان الدبلوماسيون الذين يمثلون دولتهم لدى دولة أخرى ينقلون أحيانا أنباء ومواقف عن دولتهم غير دقيقة وربما خاطئة، وذلك في سبيل كسب ود وتأييد المسؤولين في الدولة المضيفة الذين لم يكن لديهم وسيلة للتحقق بسرعة من صحة ما يسمعونه من هؤلاء الدبلوماسيين.
ولكن في أيامنا هذه، ومع التطور الكبير الذي نشهده في وسائل الإتصال على مختلف أنواعها، أصبح من الصعب جدا إن لم يكن من المستحيل على الدبلوماسي أن ينقل الى المسؤولين في الدولة المضيفة أنباء غير صحيحة عن دولته. فالمسؤول في الدولة المضيفة يتلقى باستمرار تقارير من ممثلي دولته في مختلف الدول ويعرف بالتفصيل ما يجري في بلدالدبلوماسي الذي ينقل اليه أنباء ومواقف حكومته ومعلومات عن دولته، هذا بالإضافة الى أن المسؤول في الدولة المضيفة، حتى أثناء اجتماعه مع ممثل دولة أخرى، يستطيع التواصل مباشرة مع سفارته في تلك الدولة وأخذ المعلومات الدقيقة والصحيحة عن موقف تلك الدولة وما يحصل فيها.
لذلك من الضروري على جميع الدبلوماسيين أينما كانوا أن يتعاطوا بصدق في تصرفاتهم، وأن تكون الحقيقة أساس تعاطيهم ليس مع المسؤولين في الدولة المضيفة فحسب، بل أيضا مع جميع من لهم علاقة معهم بمن في ذلك أفراد جاليتهم والتجمعات الثقافية والإقتصادية والدينية والإجتماعية في الدولة الضيفة. فالدبلوماسي الذي لا ينقل حقيقة الأوضاع والمواقف في دولته يفقد مصداقيته ولن يستطيع إقناع وكسب تأييد الدولة المضيفة للقضايا التي تهم دولته.
لا شك أن الصدق ينبغي أن يكون رائدنا في الحياة اليومية وفي جميع اتصالاتنا ونشاطاتنا وأحاديثنا لأن الإنسان الصادق يكون موضع احترام الآخرين، أما الإنسان المعروف بعدم الصدق في أحاديثه، فإن الناس لن تصدقه حتى عندما يقول الحقيقة. كذلك التاجر والبائع ورجل الأعمال الذي يبتعد عن الصدق في أعماله التجارية سيجد أن الناس ستبتعد عنه وتتجنب التعاطي معه، وهذا ما يؤدي الى خسائر مادية كبيرة في عمله.
ولكن الصدق في العمل الدبلوماسي بصورة خاصة أمر أساسي وهام للغاية لأن الدبلوماسي الذي لا يتعاطى بصدق في عمله لا يخسر ثقة المسؤولين في الدولة المضيفة فحسب، بل إنه يضع دولته في موقف حرج،ولن تستطيع دولته إقناع الدولة المضيفة بصوابية مواقفها والحصول على تأييدها في أمور قد تكون هامة جدا بالنسبة اليها.
والعمل الدبلوماسي لا يقتصر فقط على الإتصالات السياسية لجهة نقل موقف سياسي معين وطلب تأييد الدولة المضيفة له، بل يتعدى ذلك الى الأمور الإقتصادية والثقافية والسياحية أيضا. فعلى الصعيد الإقتصادي مثلا، يسعى الدبلوماسي الى إقامة علاقات مع غرف التجارة في الدولة المضيفة لتأمين الإتصالات اللازمة لهم مع غرف التجارة في دولته لتبادل المعلومات المفيدة بين الفريقين في سبيل تعزيز التبادل التجاري، وفي المجال الثقافي والسياحي، يلقي الدبلوماسي محاضرات في جامعات الدولة المضيفة ومع وسائل الإعلام وينظم لقاءات ثقافية واجتماعية للتعريف عن دولته وعن الجوانب السياحية المتوافرة فيها، وهذه كلها أمور تقتضي الصدق والواقعية وعدم المبالغة بحيث ان السائح الذي يزور دولة الدبلوماسي لا يشعر أن هذا الأخير أعطى معلومات غير صحيحة عن بلده، فذلك سينعكس سلبا ليس على الدبلوماسي وحده بل أيضا على الدولة التي يمثلها.
والصدق في نقل المعلومات عن دولة الدبلوماسي عندما يلقي محاضرة أو يتحدث الى وسائل الإعلام عن دولته لا تعني أن عليه بالضرورة شرح كل ما يجري في بلده بالتفصيل الكامل، فالتركيز مثلا على الأمور والوقائع الإيجابية، والحديث المقتضب عن السلبيات القائمة في دولته لا تعتبر ابتعادا عن الحقيقة ونقصا في الصدق، ولكن في حال توجيه سؤال إليه عن أمور سلبية معينة، فمن الضروري الإجابة عن السؤال بصدق، ويبقى دائما الأهم في كل ذلك الطريقة التي يتم بموجبها نقل الأمور من قبل الدبلوماسي.
فالدبلوماسية هي أيضا طريقة في التعاطي وفي تبادل الأحاديث بين الناس، والمسألة هنا لا تتعلق فقط بمضمون الحديث بل أيضا بطريقة توجيهه. فمضمون الحديث كما سبق وأشرنا ينبغي أن يكون صادقا وغير بعيد عن الحقيقة والواقع، ولكن طريقة توجيه الحديث لها أيضا أهمية قصوى.
من أهم أصول الطريقة الدبلوماسية في تبادل وجهات النظر تكمن في التهذيب أثناء الحديث، واحترام الشخص الذي نتحاور معه، حتى لو كنا على يقين تام أنه مخطئاً و غير صادق في ما يقوله. ومن الضروري أيضا الإستماع الى وجهة نظر الشخص أو المسؤول الذي نتحاور معه ولا نتسرع بمقاطعة من نتحاور معهم ونحاول إقناعهم بوجهة نظرنا وبصوابية موقفنا، بل علينا أن نحافظ على هدوئنا وعدم محاولة فرض رأينا وتجاهل الرأي الآخر.
فالدبلوماسية الصادقة لا تقتصر على قول الحقيقة ونقل الموقف بصدق، بل هي تتجسد أيضا في الطريقة التي نتعامل بها مع الآخرين وفي كيفية التحاور معهم في إطار من الإحترام، وإظهار التفهم لموقفهم حتى ولو كنا غير مقتنعين به، وعرض موقفنا بطريقة موضوعية محاولين تبيان حسنات الموقف الذي نعرضه والإفادة التي يمكن أن يحصل عليها الفريق الآخر من هذا الموقف.
أذكر جيدا عندما كنت سفيرا للبنان في إحدى الدول، وعند تشكيل الحكومة اللبنانية في ذلك الوقت، وجهت وزارة الخارجية في تلك الدولة برقية تهنئة الى رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك عبر سفارتها في بيروت، مؤكدة في هذه البرقية بكلام لا لبس فيه انها لن تتعاطى مع بعض أعضاء هذه الحكومة لاتهامها إياهم بالإنتماء الى حزب تعتبره إرهابيا. وفي زيارتي لأحد كبار المسؤولين في وزارة خارجية تلك الدولة في اليوم نفسه بعد أن أبلغوني نص البرقية التي أرسلوها الى سفيرهم في لبنان ، قلت له بصراحة وبلطف تام أن ذلك لا يفيد دولته وكان من الأفضل عدم توجيه كتاب تهنئة إطلاقا يتضمن أمورا سلبية لأن التهنئة أمر إيجابي ولا ينبغي أن تتضمن شروطا أو أمورا سلبية لأنها في هذه الحالة تفقد قيمتها، وشرحت للمسؤول أن موقفهم لن يساعد تلك الدولة في علاقاتها مع لبنان.
في اليوم ذاته، تم الطلب من سفير هذه الدولة في لبنان عدم تسليم برقية التهنئة الى رئاسة الحكومة اللبنانية كما تم إعداد برقية جديدة أطلعوني على نسخة منها وليس فيها أية إشارة لجهة عدم التعامل مع أي فريق في الحكومة اللبنانية كما أنهم شكروني لأنني أوضحت لهم الأمر. فلولا ثقتهم بالصدق في الطريقة التي كنت أتعاطى معهم بها باستمرار، لما أطلعوني على البرقية الأولى المرسلة ولما أوقفوا تسليمها الى مرجعيتها وأعدوا نصا آخر أطلعوني عليه قبل إرساله الى سفارتهم في لبنان.
لدي قناعة راسخة بأن الدبلوماسي، ليكون ناجحا في عمله، عليه قبل كل شيء أن يكون صادقا، لأن الصدق يؤمن له السمعة الجيدة في الدولة التي يمثل بلده فيها، ويفتح له الأبواب لدى المسؤولين في تلك الدولة،ويفيد بالتالي دولته عبر تعزيز العلاقات مع الدولة المضيفة.
فالدبلوماسية الصادقة ليست المراوغة وإرضاء الآخر ينعلى حساب الحقيقة، بل هي نقلا لحقيقة والوقائع بطريقة مهذبة ولطيفة، واحترام المتلقي عبر عدم الإستخفاف بذكائه، لأن الإبتعاد عن قول الحقيقة قد يفيد المتحدث أحيانا لبعض الوقت، ولكن الحقيقة بالنتيجة لا تلبث أن تظهر، وفي هذه الحالة يخسر الدبلوماسي مصداقيته، ولن يستطيع فيما بعد القيام بمهماته الدبلوماسية لمصلحة دولته بنجاح.