بقلم: أ.د. ناهدة العاصي
هل تعتبر نفسكَ مثقّفاً؟ هو سؤالٌ بسيطٌ للغاية، لكن الإجابة عنه تستدعي التوقّف قليلاً والتأنّي في الإجابة. هل برأيك يشترط الحصول على درجة الدكتوراه للإنضمام إلى «أكاديميّة» المثقّقين الفكريّة، إن جاز التعبير؟ بالطبع لا! فأكاديميّة المثقّفين شاملةً تضمّ جميع أنواع الأشخاص بغضّ النظر عن خلفيّاتهم العرقيّة أو الدينية أو الإجتماعيّة، خاصة وينضوي تحت شعار هذه الأكاديميّة أسرى … ومشرّدون … وفقراء … ومتعلّمون. فالمثقّف هو ليس مَن لديه معلومات صحيحة، ولا يمكن قياس فكره بمقدار المعرفة، فكم من طبيب لم يستطع إعطاء العلاج المناسب، وكم من مستشار لم يتمكن من إعطاء حلٍّ مناسب لمشكلةٍ مطروحة!
المثقّق برأيي هو شخص لديه رغبة هائلة في توسيع مداركه المعرفيّة، ولديه قدرة هائلة على تغيير أفكاره التي عايشها لسنين، وقدرة هائلة في التعبير عن الذات والنقد الذاتي. وأكثر ما يهمّ المثقّق هو إيجاد الحقيقة وكشفها. كثيرون هم المثقّفون الذين لديهم رغبة هائلة في المعرفة، وعقولهم متفتّحة على الأفكار الجديدة، ويبحثون عن أفكار تتحدّى كيفيّة رؤيتهم للعالم، وهم على استعداد للنظر بشكل مختلف إلى العالم مع كلّ ومضة دليل جديدة. والكثير منهم ينتقد أفكاره الخاصة في محاولاته الدقيقة للبحث ولتقييم أفكار الآخرين.
المثقفون إذاً هم أناسٌ كالبدو، يغيّرون مواقعهم الفهميّة باستمرار، يبحثون دائماً عن مساحة أفضل من الفهم. وكالمحاربين يقومون بتفكيك أفكارهم القديمة بانتظام ويعيدون تنظيمها وتعديلها لتصبحَ أفكاراً جديدةً أفضل من سابقاتها وذلك بهدف النموّ في مكانهم. وهم على عكس المهاجِرين من بلادهم الذي يغيّرون مواقعهم الجغرافية فقط لكنهم لا يتمتّعون بالقدرة على تغيير مواقعهم الفهميّة. وخير دليلٍ على ذلك تكتُّل المهاجرين في شبه كانتونات يشعرون بعدم الأمان إن خرجوا منها، ورفضهم الإندماج في ثقافة مجتمعاتهم الجديدة، وفي الكثير من الأحيان عودتهم إلى أوطانهم الأصليّة خوفاً من التغيير.
ما هي حظوظ ذوي الدرجات العالية من الثقافة وذوي الرؤيا وبغضّ النظر عن أعمارهم؟ مَن هم القادة والمسؤولون في مواقع القرار الذين يفتحون الأبواب للمثقّفين القادرين على تحفيز الآخرين على التفكير وزرع بذور التغيير؟ هم نادرون، وإن وُجِدوا، لا يكون لهم ثِقلٌ ووزن وفعاليّة. فوجود المثقفين يعني تهديد مواقعهم ومراكزهم ومصالحهم. والأمثلة كثيرة وخير مِثالٍ عليها الحراك الشعبي في لبنان الذي بدأ في ١٧ تشرين الأول (أكتوبر) من عام ٢٠١٩ ولم ينتهِ حتى يومنا هذا. ماذا فعل الطاقم السياسي القائم حيال التحرّك الشعبي الهائل الذي انضمّ إليه نصف الشعب اللبناني إن لم يكن أكثر؟ حاربوه وماطلوه في الإستجابة لمطالبه لكي يقتلوه ويلعبوا هم الدور البديل ويصبحوا وكأنهم هم الذين يغارون على مصلحة البلد. ومع ذلك، ما زلتُ أرى قوة الحراك كالنار تحت الرماد، فهم على استعداد للوقوف مجدّدا في وجه الطغاة الفاسدين.
هذه الأمثلة تتكرّر في أماكن كثيرة من العالم، وكندا ليست استثناءاً. كندا تُعتبر وعاءَ انصهارٍ لمائتي أصل عرقي مختلف ويشكّل المهاجرين إليها نسبة ٢٠،٦ ٪ من تعداد السكان. هي دولة بالمبدأ تحترم المثقّف وتعطيه الفرصة لكي يبدع. لكن كيف لها أن تستفيد من طاقات المثقّفين إن هي فشلت في دمج المهاجرين في ثقافةٍ واحدة مُوحِّدة؟ كيف لها أن توظّف المثقّفين المنفتحين على التغيير والتطوير إن لم تصحّح المفهوم السائد بأنّ موظّف الدولة يستطيع الإطمئنان على وضعه والتراخي ما إن يصبح في ركاب الوظيفة الحكوميّة أو أن يصبح في موقع القرار؟ ها نحن نرى كيف يتعاطى المهاجرون من موظّفي الدولة بفئويّة وإنحياز لِمَن هم من بلادهم أو من مجموعاتٍ ينتمون إليها بشكلٍ أو بآخر. لذلك أرى أنه على الدولة أن تسعى جاهدةً إلى التخفيف من الإنقسام المجتمعي الأفقي والعمودي بين المهاجرين من الجاليات المختلفة، وإلا فستساهم في تعميق الإنقسام وخلق نعرة التنافس وعدم الثقة مع ترسيخ واضح لثقافة الإنغلاق الموروثة لدى الكثيرين الذين ينتقدون انفتاح المجتمع الكندي ويريدونه أن يشبه مجتمعاتهم التي هاجروا هرباً منها.
ويبقى أملنا متعلّقاً بكم يا جيلنا الجديد الذي نشأ على ثقافة الإنفتاح والنقد الذاتي والتفكير بموضوعيّة. أنتم مُهيّأون لمواجهة كلّ التحدّيات، كما أردتم لأنفسكم، تتحلّونَ بالجرأة الكافية لتوجيه أصابع الإتهام لكلِّ فاسدٍ يقاوم التغيير والتطور وتقفون لهم بالمرصاد.
يا جيلنا الصاعد، إنهلوا من خبرة السابقين واجعلوها حجر الزاوية في بناء مفاهيمكم الحديثة الداعمة للتطوير. تقدّموا وسنكون لكم السندَ لتقودوا العالم نحو التغيير الذي تطمحون له ونشارككم فيه الطموح.