قصة قصيرة
بقلم : نعمة الله رياض
قال لزوجته سأتناول طعام الغداء بعد عودتي من البحر .
فى اليوم الأول لوصوله مع أسرته إلى المصيف ، حرص على تطبيق برنامجه اليومي المعتاد ، وبنده الرئيسي هو السباحة عصراً .. فالسباحة هي رياضته المفضلة فى الصيف ، حتى بعد أن تعدى عمره الخمسين .
نزل من شقته البعيدة قليلا عن الشاطئ .. مشي فى الشارع المؤدي إلى البحر بجسمه الرياضي الممشوق ، عدا كرشه الذي أصر على البقاء دون جدوى من محاولاته المستميتة لإنقاصه .. لم يرتدي سوي سروال الاستحمام وقبعة تقيه من حرارة شمس أغسطس .. ولم يكن يحمل معه إلا نظارة البحر يرتديها لتقي عينيه من المياه المالحة . وصل إلى الشاطئ المزدحم بالشماسي وجلس على مقعد مطل مباشرة على مياه البحر فى مقهاه الذي اعتاد الجلوس فيه كل عام ..
كان عشرات المستحمين من مختلف الأعمار يسبحون أمامه بالرغم من الرايات السوداء التي ترفرف على طول الشاطئ .. كان معظمهم يسبحون أو يقفون داخل المياه على حافة البحر بما لا يتجاوز بضعة أمتار يتمتعون بالأمواج التي تلاطم أجسادهم فيتزايد صيحات الأطفال بهجة مع كل موجة تأتى برغوتها وصخبها المميز ..
إشتاق للبحر بزرقة مياهه الخلابة التي طالما أحبها .. دفع حساب مشروبه المثلج وتوجه ليحتضنه ، لمس بقدميه ، لأول مرة منذ العام السابق ، الموجات المتتالية الزاحفة على الشاطئ .. بلل جسمه قليلا وثبت نظارة البحر على عينيه قبل أن يقفز سابحاً تحت الماء لمسافة ليست بالقليلة .. ما كاد يقف مرة أخرى على قدميه حتى ارتطمت برأسه كرة تتقاذفها مجموعة من الأطفال .. أعادها لهم متضايقاً.. لن يزاول رياضته المحببة في هذا الزحام .. سيسبح حتى الجزيرة الصخرية .. حيث لا يوجد أحد .
فى طريقه إلى الجزيرة الصغيرة التي تبعد كثيرا عن الشاطئ ، وصل إلي واحد من البراميل التي تحدد المسافة الآمنة للسباحة . وجد هناك سباحا آخر متعلقا به .. اعتبرها فرصة للراحة والتقاط الأنفاس ولتبادل الحديث معه .
_ الموج عالي النهارده !!..
_ السَحب زاد كمان ..
_ تحب تروح الجزيرة اللي هناك دى معايا .. ؟
_ لا يا أستاذ ، العمر واحد .. مش شايف الناس بتخرج من الميه .. ما سمعتش عن الغريق اللي طلعوه من يومين . ..
_ يا راجل دول ما بيعرفوش يعوموا ..
_ البحر ملهوش كبير يا أستاذ .. بعد إذنك أنا راجع ..
تابع بإشفاق السباح الآخر وهو يعود إلى الشاطئ .. لكنه لم يفقد حماسه .. صمم على إكمال ما اعتزم ..
بدأ في السباحة تجاه الجزيرة .. كانت المسافة أطول وأصعب مما يعتقد ، فى ظروف اشتد فيها صخب الأمواج .. وسَحبها له في اتجاه مغاير .. لكنه واصل السباحة بإصرار ..
اقترب بصعوبة من الجزيرة ، لم تكن إلا مجموعة من الصخور القليلة ذات حواف مدببة وأسطح تغطيها طحالب البحر الزلقة .. كانت الأمواج تقربه وتبعده بشده من الصخور واستطاع بعد جهد التشبث وتسلق إحداها .. نزفت ركبتيه من خدوش كثيرة نتجت من ارتطامه المتكرر بالصخور . لم يحس بألم كبير ولكنه أدرك انه بذل مجهوداً كبيراً فى الذهاب ، وعليه أن يبذل مجهودا أكبر فى رحلة العودة . نزع نظارة البحر ليحاول رؤية الشاطئ ، أدرك أن المسافة إليه أكثر بكثير مما يعتقد أو هكذا هيئ له من فرط إجهاده ..
أحس بخطورة الموقف .. فكر فى طلب نجدة من الشاطئ .. أخذ يلوح بذراعيه وهو يصرخ بأعلى صوته .. لم ير الشاطئ بوضوح أو يلاحظ استجابة ما ..
مرت دقائق ليست بالقليلة .. نظر إلى قرص الشمس الأحمر وهو يزحف حثيثا نحو الغروب .. بعدها ستظلم الدنيا .. مع ازدياد ارتفاع الأمواج ، لم يجد أمامه اختيار آخر ، اندفع فى طريقه إلى الشاطئ .. مع أول ضربة بذراعه فى الماء ، داهمته موجه عاتية قلبته عدة مرات أطاحت بنظارة البحر بعيداً وابتلع جرعة من ماء البحر ثم ثانية وثالثه .. كاد يفقد بعدها توازنه .. لكنه تماسك قليلا وبدأ فى تطبيق خبرته السابقة فى استغلال الأمواج لمساعدته على الوصول للبر .. كان يترك نفسه مع قدوم الموجة لتحمله ناحية البر ثم يسبح بكل قوته بعدها مباشرة ليقاوم السحب التالي الذي يبعده عن الشاطئ .. استمر على ذلك لوقت طويل، ، نظر إلى الشاطئ ، ما زال بعيداً واصبح خالياً تماما من السابحين .. مع تسارع دقات قلبه أحس بالخوف يتسرب إلى وجدانه .. لم يمر بموقف صعب هكذا من قبل .. صحيح انه ذاق طعم الفشل مرات عديدة فى حياته ، لكنه لم يسمح بتسرب اليأس أبدا إلى قلبه .. مرت ذكرياته كالطيف منذ بدأ يتعلم السباحة على يد مدرب فى مسبح النادي .. تعلم الطرق الصحيحة للعوم صدراً وزحفاً ، فراشة وظهراً .. أضاء خياله صورة أمه عندما كانت تتابعه جزعة وهو لم يزل صبيا يتوغل فى البحر .. وتذكر وجه خطيبته وهى تستقبله فرحه عندما كان يعود سابحا من جزيرة فى البحر تبعد كيلومترات عدة .. ذكريات صباه وشبابه نفخت فى روحه الصمود ودفعت الحماس فى دمائه .. كان يتقدم بطيئاً نحو الشاطئ عندما صدمته موجة أخرى أصابته بشد عضلي فى ساقه .. أحس بألم شديد لم يستطع بسببه مواصلة السباحة .. هذا أيضاً
ما كان ينقصه !! .. تذكر أرشيميدس وقاعدته المشهورة فى الطفو .. تمدد على الماء فاردا رجليه ،حرك مشط قدمه عدة مرات ليتغلب على الشد فيها .. بصعوبة ومعاناة نجح فى التخلص من الشد .. مر الوقت بطيئاً وهو يواصل السباحة .. أصابه الوهن لكنه كان يلهث جاهدا للنجاة بحياته .. استجمع عزيمته ورفع قلبه إلى الله .. أخيراً اقترب من البراميل ، تشبث بإحداها ملتقطا أنفاسه .. أدرك الآن انه على وشك النجاة .. واصل تقدمه نحو الشاطئ وستائر الظلام تنسدل بسرعة على الأمواج الهادرة التي تحيط به وتحجب رؤيته للبر الذى مازال بعيداً ..
مرت الدقائق بطيئة وهو يضرب الماء بذراعيه حتى تمكن فى النهاية أن يلمس أرض البحر بأرجله ..
كاد يغمى عليه من فرط المجهود الذي بذله ونسي في لهفته على النجاة كل نظريات السباحة التي تعلمها وأصبحت سباحته تشبه سباحة الكلاب !! .. أكمل المسافة الباقية للبر مشيا عل قدميه .. خرج واهنا مذهولا إلى الشاطئ .. إلى دنيا كادت تضيع منه ..
كان الظلام مخيما علي رمال الشاطئ والبحر بأمواجه الهادرة .. وهو يسير بخطوات بطيئة فى طريقه إلى شقته .. واحدا من قله تعد على الأصابع تتمشى على الشاطئ ليلا .. فردا عاديا لا يلفت الأنظار .. عدا نظرة مختلفة للدنيا حوله تنبعث من عينيه ، وخدوش حديثة حول ركبتيه توقفت منها الدماء ..