بقلم: ادوارد ثابت
ملخص ما نشر في العدد الماضي :
جاء من عمله بقطار من قطارات الوجه البحري ومر في سيره بمواقف الوجه القبلي فرآها تنزل من القطار هي وزميلاتها يتضاحكن فبدا في فمها ضرس غطته بغطاء ذهبي فافتتن بجمالها ورقتها وتمنى أن يتعرف عليها ولكن كيف وقد غابت بين الزحام ويستقل الترام إلى بيته وينتظر إلى جانب باب العربة فتقبل فتاة تستقله فإذا هي الفتاة التي رآها فيتلعثم وينظر إليها وتنظر إليه ولكنه يخجل من أن يحدثها . وما أن تقبل المحطة التي عليه أن ينزل فيها حتى تمسه شجاعة فيسألها في هدوء أين تعمل فتقول له في همس في المزغونة . فيسألها هل تأتي في نفس القطار الذي أتت فيه فتومئ له برأسها ثم تحييه متمتمة بشفتيها وتنزل من الترام وتعبر الطريق إلى الشارع العمودي عليه فتنتابه فرحة غامرة على أن يلقاها من الغد بمحطة القطار.
لم يفكر ولم يتوقع أن يفعل ما فعل حتى يراها ، ولكنه لم يتوانَ ، فقد كان مصراً بل معانداً . من الغد يقبل من عمله إلى محطة القطار ، ويهرع في ترقب إلى موقف قطارات الصعيد وقد تملكته الرغبة في أن يراها ، وينظر فإذا قطار فارغ من الركاب يقف على الرصيف .. إذن قطارها قد جاء قبل قطاره وقد حدث العكس بالأمس فجاء هو قبلها ، والقطارات في الغالب لا تلتزم بمواعيدها فتتأخر .. ويتجه إلى ركن من أركان المحطة ، وينظر في الصحف المعلقة على الحائط التي توضع في إطار زجاجي والتي تدون بها مواعيد القطارات فيتفحصها ، فيرى فيها قطاراً يأتي غلى القاهرة بالقرب من الموعد الذي رآها فيه تنزل منه مع صديقاتها فيبحث فيه عن المزغونة ، تلك البلدة التي تعمل بها والتي أخبرته عنها ويدقق كثيراً فلا يراها على صحيفة القطار ، ويدقق فلا يرى قطاراً غيره يأتي في ذلك الموعد ، فما هي إلا قطارات مختلفة في مواعيدها فيترك المحطة ولا حيلة له ، ولكن ما أن يذهب إلى بيته حتى يبحث بخريطة الوجه القبلي وخاصة بالمحافظات القريبة من القاهرة ، فهي من غير شك لا يمكن أن تعمل بمكان ناءٍ كثيراً عن القاهرة حتى تسطتيع أن تذهب وتأتي منه كل يوم بالقطار ، فينظر في محافظة الجيزة ويلمحها .. المزغونة .. قرية من قرى مركز البدرشين الذي يتبع محافظة الجيزة ، إذن فالفتاة لم تكذب عليه ، فهي تنتهي من عملها وتتجه بوسيلة من وسائل النقل ، فتستقل القطار من محطة البدرشين . ولم ينتظر ولم يتوانَ فيأخذ في اليوم التالي عطلة من عمله ويتجه إلى محطة القطارات وينظر في الصحف المعلقة فيرى أن قطاراً يقف بمحطة البدرشين ويأتي إلى القاهرة في نفس الموعد تقريباً الذي رآها فيه ، إذن فهي تأتي به . وينتظر حتى اقبل القطار ونزل منه الركاب مندفعين فيتفحص وجوههم ويدقق فيها ولا سيما الفتيات اللاتي يعملن بهذه البلاد التي تقترب من القاهرة ، وليس من الصعب معرفتهن ، فهن لا يحملن حقائب السفر الكبيرة التي يحملها المسافرون ، وإنما يمسك بإيديهن حقائبهن الصغيرة التي يضعن فيها حاجياتهم أو يعلقنها على أذرعن كما تفعل معظم النساء . ينظر في تلك الوجوه ولكنه لم يستطع أن يراها . ويتكرر منه ذلك مرات ، ففي مرة يرى القطار يقف بمكانه فارغاً ، ومرة يقبل القطار ممتلئاً ويتفحص من ينزلون منه فلا يراها ، ومرة ثالثة يرى أن القطار ليس به هؤلاء العاملين والعاملات وليس به إلا القليل من الركاب وكأنما الركاب قد نزل معظمهم بمحطة سابقة ومرة رابعة ينتظر ما يقرب من الساعة فلا يأتي أثناءها إلى المحطة أي قطار . وهكذا هي القطارات بتلك المحطة المرتبكة ، تأتي فلا يُعرف من أين تقبل وأين تقف ! ولا يُعرف زمنها أو وقتها حتى أضطر أن يستوضح بعض النازلين من القطار هل وقف أو مرَّ بمحطة البدرشين فيجيب منهم نعم ، ويجيب منهم لا وغير أولئك وهؤلاء لا يعرفون . ماذا حدث لهذه القطارات التي تتضارب في مواعيدها ولا تلتزم بها ، ولم تكن هكذا قديماً ، وأين هي هذه الفتاة التي أخبرته بعملها بالمزغونة ، وقالت له بلا خداع أن قطارها يأتي في الموعد الذي قابلها فيه عندما حدثته بالترام ذلك الحديث القصير الذي لم يزد عن لفظة أو تمتمة أو تمتمتين ثانيتين ونظر إليها ونظرت إليه فمسَّت قلبه واسرت نفسه فغدا يشتاق إليها وإلى أن يراها .ألعلها ولحظه العاثر هي الآن في أجازة من عملها ، ام تركته إلى عمل غيره ؟! وهل سيحدث ذلك سريعاً بعد يوم من لقائها به بالترام ؟ يا للدهشة !! ويفكر في أمر لم يتأكد من صحته أو أحتماله فهو يبحث عنها بين الركاب الذين ينزلون من القطار مندفعين وهم كثيرون ، فقد يكون من الصعب أن يراها بينهم ولا سيما أن بالمحطة أكثر من منفذ يخرج منه الركاب ، ولذا فعليه أن يذهب إلى محطة الترام فهي لابد تستقله بعد حضورها بالقطار ، فينتظر القطار بعد هذا اليوم ، وما أن يراه قد أقبل إلى الرصيف وامتلأ بالناس الذين أوشكوا أن ينزلوا منه حتى يهرع إلى محطة الترام فينتظر ما يقرب من الربع ساعة ولكنها لم تحضر ولم يرها . ويشعر كأنما يؤنبها ، أما فهمت عن سؤاله عن قطارها وعن موعده وهل تأتي به كل يوم وفي نفس الموعد فأجابته هي رغبة منه في أن يراها ؟ فهل أنتظرته مرة بالمحطة في يوم لم يذهب فيه أو ذهب متأخراً فتركت المحطة ، وحتى ولو كانت مع صديقاتها أما كان يمكنها أن يعتذر عن مصاحباتهن وتنتظر قليلاً ؟! لعله اليوم الذى رأى فيه القطار فارغاً يخلو من تالناس فأنتظرته قليلاً بالمحطة ثم تركتها ، ولاسيما ولم يخبرها – وهو يأسف وليته فعل – أن له قطاراً من قطارات الوجه البحري يأتي به كل يوم فلم تدرك ذلك وأعتقدته يأتي معها بنفس القطار فأنتظرته هو يبحث عنها وتأكدت أن هذا البحث سهل عليه . كل تلك الأمور فكر فيها ، وتضاربت بها أفكاره بين الصدق والخطأ ، وبين الأحتمال وأمر غيرها لم يعرفه ولم يتداركه . ومع ذلك يقوي عناده ، وكأنما هو في صراع بين أختفائها وبين رغبته في أن يراها . ويفكر ثانية ، لعلها تتجه إلى منفذ جانبي بالمحطة تخرج منه فتستقل سيارة بدلاً من الترام ! وهي لم تقل له كيف تذهب كل يوم إلى بيتها بعد القطار ، هي من غير شك أعتقدته يأتي معها في نفس القطار وعليه أن يبحث عنها هو فهي مع صديقاتها تخجل من أن تبحث عنه أما هو فسهل عليه . أترى كان اعتقادها خطأ ولم تدرك خطأه . ولعلها تنزل من القطار بمحطة غير القاهرة ، الجيزة ام غيرها ثم تتجه إلى بيتها ، وهذا لن يغير من أعتقادها وتفكيرها إن رأته فيهما وكأنما يأتي معها في نفس القطار ، وهذا أقرب إلى الصحة ، فهي عندما رأته برصيف المحطة لم تتخيله قد جاء من جهة محطة الوجه البحري ومن القطار الذي يأتي به من عمله وهو لم يوضح لها ذلك عندما رآها بالترام ، فلو عرفت ذلك منه لعلها كانت ستفعل شيئاً مختلفاً .ويستدرك قليلاً ، فمن اليقين تستقل القطار من محطة البدرشين ، المكان الذي يقترب من المزغونة ، تلك البلدة التي تعمل بها … نعم البدرشين ، فهناك لن يكون كثيرون ينتظرون القطار الذي يقبل من الصعيد متجهاً إلى القاهرة ، ولن يكونوا كالكثيرين الذين ينزلون من القطار بالقاهرة متدافعين متزاحمين ، هناك يستطيع أن يراها . ويتجه فيعرف من صحف القطارات المعلقة على الحائط الوقت الذي يأتي فيه القطار إليها . ولم يتوان فيستقل سيارة من سيارات الأجرة التي تتجه إلى البدرشين فكان هناك قبل موعد القطار وظل ينتظر فيرى بين الحين والحين من يقبلون إلى المحطة من الرجال والنساء ومن الشباب والفتيات يتوقفون وينتظرون القطار فيتطلع إلى الفتيات منهم لعله يراها حتى أتى القطار ولم تأتِ هي فشعر بالسخرية وبالضيق واستقل هو القطار ، نفس القطار الذي جاءت به إلى القاهرة يوم أن رآها تنزل منه وهي تتضاحك هي وزميلاتها . لم يضعف عناده ولم يفتر بحثه عنها ، فقد رآها في ذلك اليوم الذي لم ينَسه تنزل من الترام بعد أن حيته ، وتعبر الطريق إلى ذلك الشارع الذي دلفت إليه ، إذن فهي تسكن بالقرب من مسكني ، لايفصل بينهما إلا محطة ترام فقط . فيسير يوماً من منله غلى هذا المكان فما أن يدنو منه حتى يشعر بقربها منه وبعدها عنه معاً ، ويمر بالشارع فما أن يخطو به قليلاً حتى يشعر بصعوبة ما يسعى إليه . أين هي من هذا الطريق ، هل تسكن هنا ام بمكان يتفرع منه ؟! أين منزلها قريب ام بعيد ؟ وماذا يفعل ؟! أيظل يتطلع إلى شرفات المنازل من حوله ، وليس من اللائق أو من الذوق أن ينظر إلى من يراها تقف بها ، وهل يمكن أن تقف بشرفتها أو بنافذتها في نفس اللحظة التي يمر بها أمامها ، ام أن ذلك صعب ، ورغم صعوبته فقد تملكته رغبة قوية في أن يتحقق فيراها ولو رآها ، ماذا يفعل ، أيقف ويتطلع إليها ، وماذا ينتظر من ذلك ، أتراها يمكن أن تلوح له أم تلتفت إليه أم ستخجل ؟ وإن خجلت ولم يصدر منها ما تنبئه به وتلفت أنتباهه إليها فيكفيه أن يكون قد عرف أين تسكن . ولكنه بعد أن يجول في المكان زمناً لم يدركه طال أم قصر ، يشعر بقلة حيلته ويأس اقدامه فيترك المكان مهزوماً مندحراً . ويخلو إلى نفسه فيؤنبها تأنبياً لاذعاً قوياً يحك فيه على أسنانه وكأنما يطحنها طحناً ! لماذا لم يضرب لها موعداً أو يسألها لقاءً بعد أن افصحت له عن موعد قطارها ومكان عملها ، ومن اليقين لم تكن سترفض ، ولكنه يبرر قصوره وأحجامه عن ذلك بأعتقاده بل بتأكده أن يراها في اليوم التالي كما رآها في ذلك اليوم بعد أن تأتي من عملها كما تأتي كل يوم . وفي الحق لم يكن تبريره يعذره وإنما كان يزيده تأنيباً . وتمر الأيام فبدأ يشعر أن لا فائدة فيما يفعله ولا جدوى منه ، فيقل بمرورها اندفاعه في البحث عنها ثم تفتر رغبته فيه ثم تضعف وتهدأ ، وكاما مرت الأيام يتسلل إليه النسيان فينشغل بما كان عليه أن ينشغل به حتى تناسى هذا البحث وأوشك معه أن ينساها . يمر عام أو أكثر ، فيستقل بعده الترام متجهاً إلى بيته وقد أقبل الظهر أو بعده بقليل ‘ فيجلس على مقعد بعربة من عرباته ‘ فما أن يوشك الترام على أن ينتهي إلى المحطة التي تنزل بها حتى يتهيأ للنزول فيتقدم نحو الباب . وينظر فإذا فتاة يراها من ظهرها تجلس على مقعد من المقاعد ، فينظر إليها في دقة وهو يتساءل في نفسه ، ويركز في رأسها فيتقدم قليلاً وينحرف بعض الشئ حتى يتأكد من وجهها فيرى جانبه فيرتبك . نعم هي هذه الفتاة ، فتاة القطار التي أشتاق أن يراها فبحث عنها كثيراً بلا جدوى ، وها هو الآن يراها بعد ذلك التوقف الطويل . وينظر فيرى أن المقعد أمامها يخلو من الناس وتجلس هي على وقعدها منفردة فقد كانت بعض مقاعد الترام متقابلة ، فيجرؤ ويتقدم نحوها ويجلس أمامها وينظر إلى عينيها ويقول لها في أندهاش يمتزج بالحنو والأمتنان معاً وكأنما يلقي الحروف بصعوبة – المزغونة !! فترفع إليه عينيها وتنظر في وجهه وقد ضمت حاجبيها وتقول له في رفق وكأنما تستفسره – المزعونة ؟! فيسألها في ارتباك ألا تعرفينني ؟ وتجيبه وهي تنظر في وجهه وكأنما تستدرك موقفاً أو زمناً – نعم .. لقد تقابلنا منذ فترة فيقول لها مسرعاً ومؤكداً – بمحطة القطار عندما كنتِ تتضاحكين مع زميلاتك ونظرت إليك ونظرت إلي والتفتِ ثم بالترام عندما سألتك عن موعد القطار الذي تحضرين فيه واخبرتيني عنه ، وعن مكان عملك فقلتِ لي بالمزغونة وتنظر إلى وجهه وكأنما لا تريد أن تكذبه وتقول له منذ – لقد مر على ذلك وقت طويل – ما يزيد عن العام وينظر إلى فمها ويستمد في افتتان – ولازلت تضيق على سِنَّتِك هذا الغطاء الذهبي وتبتسم ابتسامة هادئة وهي تغمض عينيها قليلاً من غير أن تفتح فمها وكأنما تتواضع عن مدحه وأعجابه وتقول – ولكني لم أرك بعدها بالقطار ويتدارك في تلك اللحظة أمراً فقط من تلك الأمور الكثيرة التي فكر فيها وهو يبحث عنها ، ومن هذه الأحتمالات المختلفة التي أعتقدها فيها ، لقد توقعته يأتي معها في نفس القطار وأنتظرت هي منه هو أن يبحث عنها فيه ، فما أن يدرك ذلك الأمر حتى يفصح لها في أسى وضيق وكأنما يؤنب نفسه – أنا لم أكن أحضر بقطارك ولكني كنت استقل قطاراً أحضر به من جهة الوجه البحري وتؤمى له برأسها تهزه فيها وكأنما تفكر وتستدرك شيئاً أحسته خطأ ويندفع وكأنما لا يرغب في أن تضيع منه هذه الفرصة فيقول في التياع – وطوال تلك الفترة وأنا أبحث عنك بالقطار الذي كنت تأتين به ، وبين الناس الذين ينزلون منه وبالترام وبمحطة الترام بل ذهبت إلى البدرشين . فتسأله في دهشة وفي ابتسامة هادئة أذهبت إلى البدرشين ؟! – نعم وتقول وكأنما تصحح له لقد تركت عملي هناك بالمزغونة ، وأنا الآن أعمل بالقاهرة ويقف الترام بمحطته ولكنه لم يأبه بها أو لم لم يدركها فاستمر في حديثه – لقد تجولت بالشارع الذي ستنزلين إليه بعد قليل ، كل ذلك حتى أراك ، فأين أنت ؟ أريد أن أراك .. وتتذبذب أبتسامتها الهادئة بين شفتيها فتقول – هذا بيت العائلة فيسالها مستفسراً – بيت العائلة ؟ وتظل بابتسامتها الهادئة التي توارى بينها شيئاً من الاشفاق عليه أحسه منها وأعتقده فيها فتقول – لقد تزوجت فيسألها في أسى ولا حيلة له – أتزوجتِ – نعم وتمد ذراعها قليلاً وتفرد كف يدها فتريه ببنصرها خاتم الزواج أو الدبلة التي يضعها الأزواج حول أصابعهم ولم يشأ أن يفعل شيئاً أو يقول أكثر مما قال ولكنه ينظر إليها ويقول فى أسى – شكراً .. عن أذنك وتجيبه في هدوء وكأنما تواسيه أو شعر هو بذلك – تفضل ويقوم من جلسته أمامها ويتجه نحو نهاية العربة إلى الباب الخلفي – ولم يعرف لماذا شكرها ، والشكر لا يتلائم مع الموقف الذي فؤجى منه أو صدم به ، أتراه أشفاق منه عليها أن تضيق إن احست بشجنه ويوشك الترام على أن يتوقف بالمحطة التي تنزل فيها ، فتقوم من مقعدها وتتجه إلى الباب القريب منها ويتوقف الترام بالمحطة فينظر إليها من طرف عينيه فإذا هي قبل أن تنزل تنظر نحوه في لفتة بطيئة تحول معها رأسها في هدوء . ولم ينتظر هو إلى المحطة التالية كما فعل من قبل ، فينزلان من الترام معاً هي من الباب الأمامي وهو من الباب الخلفي ، فيعبران الطريق معاً فيتجه هو إلى جهة منه ليقطع مسافة المحطة السابقة سيراً على قدميه وتتجه هي إلى جهة ثانية فتجتاز إلى الشارع العمودي على الطريق .