بقلم: شريف رفعت
الفصل الأول:
مفروض أن يوم العمل قد إنتهى، لكني أخرج من مكتبي و أنزل للورشة قبل مغادرتي لمبنى الشركة، هذا هو روتيني اليومي المحبب لنفسي، هناك عدة عمال مازالوا يعملون على آلاتهم، يشتغلون ساعات إضافية للوفاء بطلبات العملاء في مواعيدها، أسير بين آلات ورشتي، لن يصدقني أحد إذا قلت أن كل آلة من آلات الورشة لها شخصيتها تماما مثل الآدميين، فهذه آلة جدعة تصمد و تسد في وقت الشدة، هذه رقيقة دقيقة يجب التعامل معها بحذر، أخرى متسيبة تكثر من التمارض و تحتاج لكثير من الصيانة، أتبادل الحديث مع بعض العمال، أطمئن أن كل شيء على مايرام قبل إنصرافي، حبيبتي هي هذه الورشة، أشعر فيها بأهميتي بقوتي بمقدرتي، مقدرة على التعامل مع العمال و مع إدارة الشركة و مع الزبائن، أعتقد أن قدراتي الإدارية ممتازة مثل قدراتي الفنية. بالتأكيد أنا محظوظ أني أعمل في هذه الورشة، ورشتي، معشوقتي.
معشوقتي! ذكرتني هذه الكلمة بموعدي مع أماني، خطيبتي، أخلع «الأوڨرأول» و أرتدي ملابسي و أقود سيارتي إلى وسط البلد حيث مشرب الشاي الذي تواعدنا على اللقاء به، أصل في موعدي بالضبط، لم تحضر أماني بعد، هذه أول مرة في لقاءاتنا المتعددة أحضر قبلها، إخترت منضدة في ركن هاديء، جلست أفكر فيها، أماني الجميلة، شعوري نحوها بعد شهرين من الخطوبة تحول إلى حب جارف، لم أقل لها أحبك بعد، قد يكون اليوم هو الوقت المناسب للتعبير لها عن مشاعري، ترى كيف سيكون رد فعلها؟ و كيف تشعر هي نحوي؟ موجة من التفاءل تغمرني.
دخلت أماني مشرب الشاي، نظرت حولها، قام من على مقعده و لوح لها، توجهت إلى حيث جلس، إبتسم لها إبتسامة كبيرة مرحبة، جميلة هي، جمال ذو شخصية، جمال يفرض نفسه على من حوله، يسألها:
ـ أخبارك إيه؟ الأسرة بخير؟
ـ تمام، و أنت عامل إيه و ورشتك إزيّــَها؟
ـ أنا بخير و الورشة تمام، هناك دائما المشاكل اليومية العادية.
لحظة صمت، يبحث عن شيء يقوله، هل يطري جمالها و ملبسها؟ هناك شيء مختلف فيها اليوم، تبادره:
ـ هناك موضوع مهم عاوزة أكلمك عنه، أنا في الأيام إللي فاتت فكرت بعمق في موضوع إرتباطنا ببعض، أنا وصلت لنتيجة إننا ما ننفعش لبعض، أنا ببساطة عاوزة أنهي موضوع خطوبتنا.
صُعِق، شـُلَ تفكيره، فكرة غريبة سيطرت عليه، ألا يظهر حقيقة مشاعره، ألا يظهر صدمته، كأن موضوع التعبيرات على وجهه أصبح قضية مصيرية رغم تفاهته بالقياس للمفاجأة القاسية، هل هي مسألة كرامة؟ رجولة؟ لا يدري، بمنتهى الهدوء الذي بذل مجهودا جبارا ليدعيه و بدون إنفعال ظاهر على وجهه سألها:
ـ ليه عاوزة تنهي الخطوبة، أنا فاكر الأمور بيننا جميلة، رائعة.
ـ السبب هو إهتماماتك و أولوياتك، إنت مهتم بعملك بورشتك بطريقة غريبة، الورشة أو ورشتك زي ما بتسميها هي حياتك، كلامك و تفكيرك كله عن الورشة و العمال، لما إقترحت علَيّ إنك تاخدني تفرجني على الورشة رحت معاك، كان الموضوع بالنسبة لي جديد و ظريف، إن شاب ياخد خطيبته لزيارة ورشة الآلات إللي بيعمل فيها، لكن الزيارة رغم غرابتها و كونها جديدة عَلَيـّه، أكدت لي إن الورشة هي حياتك، طريقة كلامك عن الآلات و عن العمال و عن نظم العمل كان فيها حماسة غريبة، كأنك شخص ممسوس، دائما تقول عن الورشة «ورشتي» و عن العمال «رجالتي»، فكرت في البداية إنك بتحاول تبهرني، إنما لما قلت لي إنك بتشتغل خمسين ساعة في الإسبوع و أحيانا بتبات في الورشة لو فيه شغلانة مهمة محتاجة لمتابعة، شعرت إني سأكون زوجتك التانية و الورشة، أقصد ورشتك ستكون ضرتي.
كانت تتحدث بثقة و بدون إنفعال، إنتهز فرصة سكوتها لإلتقاط أنفاسها و حاول الرد، لكنها أكملت:
ـ عارف إحنا إتقابلنا كام مرّة؟
ـ مش عارف بالضبط، أنا ما بعدش، لكن بالتأكيد كلها كانت مقابلات جميلة.
أكملت كأنها لم تسمع تعليقه.
ـ كان مفروض نتقابل ثمانية مرات، إنت إعتذرت مرتين في آخر لحظة، و مرتين حضرت متأخر أكثر من نصف ساعة، فاكر إتأخرت ليه؟
فكر قليلا ثم قال:
ـ مرّة منهم لأني رحت مع سعيد مدبولي و الست والدته بناء على رجائه، علشان نخطب له واحدة ناوي يتجوزها. و الزيارة طوِلِت شوية.
ـ هو ده عادي؟ إن مهندس يروح مع واحد من عماله علشان يخطب له؟
صمت برهة كي يختار كلماته ثم قال:
ـ لأ مش عادي إنما لو تسمحي تفهمي، أنا بأحاول إني أشعر عمالي بأننا أسرة كبيرة واحدة، ما تتخيليش فرحة و فخر سعيد و هو نازل من عربيتي مع والدته علشان نخطب له، و فعلا وجودي كان له تأثير إيجابي على أهل العروسة، و وافقوا على الخطوبة، و اعتبروا وجودي حاجة جميلة و شرف لهم. بالمناسبة سعيد عاوزني أكون شاهد على جوازه.
نظرت له متأملة كأنه مخلوق غريب، ثم إبتسمت و قالت:
ـ تعرف إن فيك براءة لا تتناسب مع سنك و لا مع وظيفتك.
ـ و دي حاجة كويسة؟
ـ دي حاجة غريبة أكثر منها كويسة. ياترى في المستقبل لما يحصل خلاف بين سعيد و مراته حيطلب إنك تتدخل علشان تنهي الخلاف لأنك الباشمهندس بتاعه و إنتم أسرة واحدة كبيرة؟ و بالنسبة لباقي العمال أي واحد فيهم حيخطب في المستقبل حتروح معاه و مع الست والدته علشان تخطب له؟
ـ أماني، إنتِ فاهمة الموضوع بطريقة غلط، أنا دلوقتِ أعطي جزء كبير من إهتمامي و وقتي للورشة، لما نتجوز أكيد الوضع حيتغير.
ـ من إللي أنا شايفاه أشك إن الوضع حيتغير، أنا عارفة إن قراري ده صعب عليك، و أنا آسفة لو كنت باسبب لك أي مضايقة، لكن أنا فكرت و قرار إنهاء الخطوبة قرار نهائي، أرجو إنك ما تصعبش الموضوع علَيّ و عليك.
صمت برهة طالت بعض الشيء ثم قال:
ـ لي طلب واحد، أجِلي قرارك لمدة يومين فكري فيهم، بعد كده قوليلي رأيك النهائي و سأنفذه مهما كان.
ـ ليه؟ إيه إللي حيحصل في اليومين يخليني أغير رأيي؟
ـ فيه حقيقة عاوزك تعرفيها و جايز تخليكي تغيري رأيك، أنا بدأت علاقتي بيكي كخطيبتي، إنما لما عرفتك عن قرب حبيتك، يعني دلوقتِ باعتبرك حبيبتي قبل ما تكوني خطيبتي.
إحتاج الأمر منه لمجهود كي يقول هذه الكلمات، صمتت أماني برهة ثم قالت:
ـ أنا بأقدر مشاعرك، لكن أرجوك ماتخليش الموقف أكثر صعوبة.
ثم قامت لتنصرف، سألها إذا كانت تود أن يوصلها لمنزلها في عربته، رفضت و شكرته، سلمت عليه دون أي تعبير على وجهها. قال لها:
ـ حكلمك بعد بكرة علشان أعرف رأيك النهائي.
لم ترد و استدارت لتنصرف.
إنتابته حالة من إنعدام الوزن، ظلت معه حتى صباح اليوم التالي، جلس في مكتبه أعلى الورشة و أغلق الباب، أخذ يفكر في أحداث اليوم السابق، ترى هل تصرف التصرف السليم؟ هل تعبيره عن حبه لها في نهاية اللقاء جاء متأخرا؟ هل إذا كان صرح لها بحبه في لقاءات سابقة سيتغير الوضع؟ بطبعه لا يدع أموره الشخصية تستحوذ على تفكيره و هو في عمله، لكن هذا الموقف جديد و قاسي، بعد فترة من التأمل العميق و البحث في أعماق نفسه طلب أماني هاتفيا، ردت بصوتها الجميل الذي يعشقه، قال لها:
ـ صباح الخير أماني، أنا فكرت في كلامك، إنتِ عندك حق، لا داعي للإنتظار يومين كما طلَبتْ منكِ، إعتبري الموضوع منتهي.
صمتت برهة ثم قالت:
ـ متشكرة على المكالمة و على تفهمك لموقفي، و أتمنى لك التوفبق و السعادة.
ـ نفس الشعور، مع السلامة.
ثم إرتدى «أوڨـرأوله» و نزل للورشة، أخذ يطوف بين الآلات، ضجيج الآلات كان له وقع سيمفونية جميلة أنسته تقريبا أحداث الأمس. راجع موقف بعض الأشغال المهمة، تبادل الحديث مع ملاحظ الورشة و مع بعض العمال، بعدها توجه إلى مبنى الإدارة حيث الاجتماع الشهري لمناقشة نتائج خطة الإنتاج، ورشته حققت خطتها كالمعتاد فليس هناك ما يقلقه، الاجتماع يرأسه رئيسه المباشر مدير الإنتاج و يحضره رئيس مجلس الإدارة، في آخر الاجتماع طلب الكلمة، وقف وقال:
ـ أرى أن الورشة عندي يمكنها أن تعمل ورديتين، الآلات موجودة و المطلوب تعيين عمال لتشغيل الوردية الثانية، و على إدارة المبيعات و التسويق أن تجد أعمال كافية لورديتين، و أرى أننا يجب ألا نقتصر في البحث عن أعمال على السوق المحلي لكن يمكن التسويق للورشة في البلاد المحيطة. الأمر الآخر هو شراء ماكينة تعمل بالتحكم الرقمي، ستكون أول آلة من هذا النوع في البلد و بالتأكيد ستجلب لنا أعمال عديدة.
رئيس مجلس الإدارة و الذي ظل صامتا طوال الاجتماع إنبرى و قال له بلهجة حادة:
ـ هذا الاجتماع لمناقشة تحقيق الخطة الشهرية و ما تتحدث عنه أمور إستراتيجية ليس مكانها هذا الاجتماع.
ـ يا فندم أنا طلبت أكثر من مرة إجتماع مع سيادتك و مع مدير الانتاج لمناقشة هذين الأمرين و لم يلتفت أحد لطلبي.
ـ أكرر ليس هذا هو المكان أو الوقت المناسب لمناقشة طلباتك، أقعد و خليك ملتزم.
جلس على مضض و اعتقد أن الموضوع منتهي لكن الرجل إلتفت له مرة أخرى و قال
ـ ثم إنت عارف ماكينة التحكم الرقمي ثمنها كام؟
رد عليه على الفور:
ـ تقريبا يا فندم نفس ثمن الثلاث عربيات الجديدة اللي إشترتها الشركة للمديرين.
إنفعل الرجل و صاح به:
ـ أنت لا تعرف حدودك،
ثم إلتفت إلى مدير الإنتاج و قال له:
ـ لو حيكرر الكلام الفاضي ده مش عاوزه يحضر الإجتماعات تاني.
في طريقه لمنزله سأل نفسه: هل موضوع إنهاء خطبته هو سبب جرأته على رئيس مجلس الإدارة؟ لا يعرف الجواب!!
الفصل الثاني في العدد القادم.