بقلم: محمد منسي قنديل
الف صور فوتوغرافية، غير واضحة، مكتوبة بلغة مندثرة، سطور واضحة تخفي سطورا مطموسة، اكتشاف لا أحد يعرف إن كانت له قيمة أم لا، تملكه اختان ليس لهما أي درجة علمية ولا يعترف بهما أحد، هذه كانت حصيلة الأربعين يوما وليلة، وهكذا عادتا إلى لندن، لا تدريان كيف تتصرفان بها، كانا في حاجة لمن يفحص هذه الصور ويفتح لهما الطريق للأوساط العلمية، الطريق لجامعة كمبريدج، كانتا قد تعرفا على البروفيسور راندل هاريس المتخصص في دراسات الانجيل عن طريق زوج الأخت الراحل، وهو الذي نصحهما بزيارة الدير، لكنه كان في رحلة لأمريكا، أرسلت اجنيس إليه خطابا مطولا، ولأنه لم يكن متخصصا في اللغة السريانية فقد نصحهما بالاتصال بروبرت بنسلي اكبر متخصص في الدراسات الشرقية في جامعة كامبردج، ولكنه كان دائم الانشغال، مؤتمرات ومحاضرات وسفريات، وفي الواقع لم يكن يرى أي جدوى في مقابلة اختين على اعتاب الخمسينات من العمر، تبدو عليهما ملامح الهوس بالشرق، وشعرت الاختان باليأس، ولكن تجربتهما في الحياة والسفر علمتهما معنى الإصرار، لابد من البحث عن صلة وصل.
في صباح يوم أحد ذهبتا إلى الكنيسة التي تصلي فيها الزوجة “مسز بنتلي”، ومعهن بعض الصفحات المصورة، توسلتا لها حتى تدع زوجها يلقى فقط نظرة على هذه الصور، اخذت الزوجة الأوراق ولم تعد بشيء، لم تكن قادرة على التنبؤ بمزاج زوجها، فقط وعدت بالرد عليهما في الاحد القادم، وانصرفت الاختان محبطتان، امامهما أسبوع كامل من الانتظار، ولكن لم يمر عليهما الا سواد الليل حتى تلقيا في الصباح المبكر رسالة عاجلة من البروفيسور بنتلي، كان يستأذنهما في القدوم لمقابلتهما هو ومساعده البرفيسور فرانسيس بيركيت، ادركتا أنهما قد أصابتا الوتر، وأنهما تملكان، رغم غموض الأمر، اثرا حقيقيا، وفي الميعاد المحدد بالضبط جاء الأستاذ ومساعده الشاب، لم يلتفتا للشاي والكعك، كان همهما الوحيد مراجعة الصور بأكملها، معرفة من أين حصلا عليها، التأكد ان كل شيء حقيقي، أخذا يسألان عن ادق التفاصيل، كانوا على اعتاب اكتشاف جديد، ربما يكون اهم واقدم من انجيل تشندروف، المهم آلا يتحدثا لاحد حول هذا الامر، لأنه لو شاع سيتدفق العشرات من كل انحاء العالم على دير سانت كاترين، لم يكن يعرف السر خارج دائرتهم إلا البروفيسور راندل هاريس، تعددت الاجتماعات ، فحصا كل صورة، كانت هناك صفحات شديدة الوضوح بحيث استطاعا قراءة أجزاء من انجيل متى، وبعد مناقشات لم تدم طويلا قرر الاستاذان أنه لابد من رؤية النسخة الاصلية والعمل عليها.
لم يكن في استطاعت الأستاذان أن يصحبا معهما سيدتين وحيدتين في رحلة للصحراء، لذلك قرر كل واحد منهما أن يحضر زوجته، وعندما عاد البرفيسور راندل هاريس من أمريكا اصرت الاختان ان يأتي هو أيضا معهم، وهكذا تكونت بعثة من سبعة اشخاص تعتزم التوجه لمصر لاستكمال البحث، وحافظوا جميعا على السر، لم يفشوا بأمر رحلتهم لأحد حتى لا يسبقهم أحد للدير، ولم تنس انجيس أن تذهب إلى المتحف البريطاني، كانت قد سمعت عن مادة كيمائية جديدة تحت التجريب يستخدمها المتحف لإزالة الاوساخ عن اللوحات القديمة دون ان تؤثر في الوانها الاصلية، اخذت زجاجة منهم وحملتها في حنان كأنها تحمل طفلا، وتجمع افراد الرحلة في القاهرة من طرق مختلفة، كانت السكة الحديد قد امتدت نحو السويس، ومنها اخذوا قاربا إلى عيون موسى، وبعد أيام من السير الصعب وصلوا إلى الدير الرابض في الوادي السحيق، وخرج الرهبان يرحبون بهم خاصة الاب جلاكتون الذي سعى للترحيب بانجيس، قال لها حين عرف بالمهمة أنه لا يعرف الآخرين ولن يتعامل مع احد منهم غيرها، نصبوا خيامهم في حديقة الدير، وسمح له الاسقف بالتعامل مع المخطوط شريطة آلا يحاولوا أخذها خارج اسوار الدير.
بدؤا العمل، كان المخطوط اصغر مما بدا في الصور، وصفحاته أكثر هشاشة، ظلوا يتأملونه محاولين أن يحددوا زمنها، ولكن الإضاءة داخل مكتبة الدير كانت ضعيفة، وسمح لهم جلاكتون أن يأخذوها للخارج، ثم كبادرة طيبة منه سمح لهم أن يحتفظوا به داخل معسكرهم على أن تتولى انجيس حراستها، وهكذا كان عملهم يبدأ مع شروق الشمس، ولأن المخطوطة كان صغيرة فلم يسمحوا إلا لشخص واحد بالاطلاع عليه في الوقت نفسه، قسموا الوقت بينهم وقد ادركوا أنهم امام اهم اكتشاف في تاريخ الديانة المسيحية، وكانوا في انتظار المعجزة التي تظهر النص المخفي، أظهرت له انجيس المادة الكيمائية التي اخذتها من المتحف البريطاني ولكن بنتلي حذرها من استخدامها لأنها اتلفت مخطوطا نادرا في باريس، كانوا يحاولون ان يظهروا النص بواسطة خليط من المواد الطبيعية، وسوائل التنظيف ولكن الأمر لم ينجح، وتشاغلت اجنس ومرجريت داخل مكتبة الدير لإعداد فهارس بالكتب الموجودة بها وإعادة ترتيبها، وعندما حان دورها في العمل في المخطوط، وبيد مرتعدة امسكت الفرشاة وغمستها في زجاجة المحلول ثم مرت بها بنعومة على احدى السطور، وفوجئت بالطبقة الأولى من الكتابة وهي تمحي، وتظهر من خلفها سطورا أخرى، خط مختلف لونه زيتوني وكلمات مختلفة أيضا، صاحت انجيس في دهشة وانبهار، وسمع الجميع صيحتها، خرج الطباخ من خيمته، واطل الكهنة من نوافذهم الصغيرة، وجاء الترجمان جريا، واسرعت مرجريت إليها واحتضنتها، أشارت اجنيس إلى السطر النحيل الذي بدا واضحا، بدأ الانجيل القديم يعلن عن نفسه ببطء، امسكوا بالمحلول مثل كنز ثمين، والسطور تذهب تباعا، يظهر انجيل وراء انجيل، متى ولوقا ومرقص ويوحنا، على مدى الأيام ولدت سطور الانجيل من جديد، واضحة وزاهية كأنها كتبت للتو، تخرج من عمق الزمن، أربعون يوما من العمل بدأب حذر وهم يستخدمون المادة الجديدة على الصفحات القديمة، والرهبان يراقبونهم من بعيد، ماعدا الأب جلاكيتون الذي اقترح عليهم كأمين مكتبة محترف أن يبقوا في كل صفحة على السطرين الآخرين من الكاتب السابق، وكشف الانجيل عن سره في الصفحة الأخيرة، ظهر التاريخ الذي كتب فيه واسم الشخص الذي كتبه، كان قد كتب في القرن الثاني من مولد المسيح، وهو بذلك يعد اقدم وثيقة تم العثور عليها في أي دين من الأديان، تم تصوير المخطوط تمهيدا لنشره، وتعهد الرهبان بالمحافظة عليه كما حفظوه طوال السنوات الماضية، وشعرت الاختان بحزن بالغ وهما تغادران سيناء، تفارقان حلم عمرها.
اين مصير هذا الانجيل الآن؟
هذا الأثر الذي لا يقدر بثمن .. ماذا حدث له؟ هل مازال موجودا، هل تحلل وتلفت أوراقه، هل تمكن الرهاب من المحافظة عليهن ام أنه سرق بطريقة غامضة، هل استولت عليه اسرائيل عندما احتلت سيناء، الاسرار كلها موجودة خلف اسوار دير سانت كاترين.