بقلم: بشــير القــزّي
تعود بي الذاكرة الى صيف سنة ٢٠٠٨ حيث عدت لزيارة لبنان برفقة زوجتي بعد غياب دام قرابة الربع قرن. بالحقيقة كنت قد قمت بزيارة قصيرة بمفردي سنة ٢٠٠٤ ولم يتسنَّ لي خلالها سياقة سيارة وسأعود لملابسات ومفاجآت تلك الرحلة في مقال لاحق!
بالرغم من تحذير الكثيرين من معارفي من خطورة القيادة في لبنان قرّرت ان أستأجر سيارة لطوال فترة أِقامتي والتي كانت تقارب الأربعة أسابيع. كان عليّ التنقّل كثيراً بين عدة مناطق لزيارة أهلي وأقاربي وأقارب زوجتي من ناحية وللقيام بزيارات رسميّة لمراجع عليا كوني كنت رئيساً لغرفة التجارة والصناعة اللبنانية الكندية وذلك من أجل مشروع كنت أعدُّ له تحت اسم “نافذة على لبنان” وذلك بتنظيم معرضٍ للمنتجات اللبنانية في مونتريال!
خرجت وزوجتي من الباب الزجاجي الواقع بعد الجمارك في مطار بيروت. كنت أسبقها بخطوات وكلّ منّا يجرّ عربة حديديّة خاصّة بالحقائب. ما ان خرجت عبر البوابة الزجاجية حتى فوجئت بجدار طويل من الناس ينتظرون ذويهم خلف حاجز حديدي. وكانت زوجتي قد حجزت بالهاتف على سيارة مع آنسة اسمها “إليان”وكان علينا تسلّمها من السائق الذي أحضرها الى المطار. وأِذ كنت أستعرض الأناس المنتظرين وهم يحملون أسماء مكتوبة على لوحات كرتونيّة بيضاء وجدت أحدهم يرتدي قميصاً أبيض من نصف كم ويحمل لوحة مكتوب عليها اسم زوجتي “ميشلين القزّي”. توجّهت نحوه مبتسماً وما ان اقتربت منه حتى أشرت له بأِصبعي نحو صدري. نظر أِليّ بتعجّب وقد عقد حاجبيه ثمّ سألني: هل انت اسمك “ميشلين”؟ أجبته مازحاً “نعم! ألا يبدو عليّ كذلك؟”
أوصلنا مندوب شركة الأيجار الى فندق “بورت أِيميليو” في منطقة الكسليك في مدينة جونية الساحلية. بعد أِنهاء التسجيل صعدنا مع حقائبنا الى الغرفة وكانت في الطابق السابع. فوجئت بأنها كانت بمثابة شُقّة من حيث وسعها وكانت تطلّ من الغرب على البحر من شباك غرفة النوم الفسيحة كما من باب واجهة الصالون الزجاجيّة والذي يؤدّي الى الشرفة بينما تطل عبر شباك السفرة الشرقي على منظر الجبل!
خرجت الى الشرفة لأسرّح نظري برؤية بحرٍ افتقدت منظره منذ عقود وكانت الشمس قد بدأت تحمرّ خجلاً بانتظار غوصها في الأفق ففرحت بمشهدٍ ألفته عيناي في صغري وحُرمتُ منه طوال غربتي! وما ان التفتُّ نحو الشاطئ القريب وبالأخص باتجاه نادي ال”آ تي سي إل” حتى فوجئت بأرضٍ واسعة تعكّر جمالها نتوءات ترابية متفرّقة مخلوطة ببعض البقايا الخرسانية وهي تدل على ان سائقي كميونات قاموا بتفريغ حمولات شاحناتهم بشكل مبعثر! دخلت من الشرفة وتوجهت نحو الشباك الشرقي وفتحت الستارة ونظرت نحو الجبل لأتفقّد منظر أحراج الصنوبر ففوجئت بمنظر المباني الخرسانيّة وقد طغت على الطبيعيّة وخطفت منها خضار الحياة!
أما السيارة التي استأجرتها فكانت من نوع “تيدا، نيسان” لونها رمادي ومن موديل السنة السابقة. رغم صغر حجمها الاّ انها وفت بالواجب. وقد قمت بزيارات متعددة وفق برنامجي أذكر منها رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزراء كل من الاقتصاد والسياحة والزراعة كما غرف التجارة والصناعة! وكنت بعد ظهر كل يوم أقوم بزيارة والديّ في مدينة عجلتون! ولدى عودتي مساءً الى الفندق كنت أُعرّج برفقة زوجتي من امام مطعمٍ فخم المظهر ذي واجهة رخاميّة جميلة مرصّعة بأِنارة مميّزة. كانت السيارات الكثيرة الفخامة مصطفّة أمامه وكان مجموعة من الشبّان الأنيقي الشكل والمظهر يرتدون سراويل وقمصاناً سوداء يعتنون بأِيقاف السيارات. قرّرت وزوجتي أن نقصد ذاك المكان في احدى الليالي لتناول العشاء.
ذات مساء عدنا باكراً الى الفندق. سألتُ زوجتي:” ما رأيكِ في ان نحتسي العشاء في ذاك المطعم؟” أجابت بالموافقة وسألتني:”أنأخذ السيارة؟” أجبتها ان لا داعي لذلك لأن المسافة قريبة!
خرجنا من باب الفندق وبعد أن تجاوزنا مساحة المرآب قطعنا الطريق الذي يمرّ امام الفندق وصعدنا طلعةً حادة تؤدّي الى جوار المكان المقصود. ما ان وصلنا حتى وجدنا المطعم على يميننا وكان ممرّ مشاة يفصل بينه وبين السيّارت الفخمة الموقوفة أمامه وكانت من انواع مختلفة “كبورش” و”لمبورجيني” و”مازيراتي” و”رانج روفر” وغيرها! قطعنا الممر ثمّ انحرفنا نحو المدخل. بان لنا اسم المطعم: “السنيور”. كان مليئاً بالزبائن. وما ان سأَلَنا مستخدمُ المطعم عما أِذا كنا نريد الجلوس في الداخل أم في الخارج أجبنا أننا نفضّل الباحة الخارجية. أشار لنا بالجلوس حول الطاولة الوحيدة التي كانت خالية من الزبائن. كانت بلاستيكية بيضاء كما الكرسيّان اللتان جلسنا عليهما. ثمّ بادرنا بالسؤال:”أي نفَسْ تريدان؟”. سألت نفسي:”أي نفسْ؟ ماذا يقصد؟” ثم نظرت حولي وكان جميع الزبائن يدخنون الأراجيل والتي كانت مختلفة الشكل واللون وكان الكثير منها من التي كان استعيض عن رأسها بليمونة اوبطيخة مفرغة! فهمت ان المكان مخصَّص “لشرّيبة” الأرجيلة! أجبته أننا لا ندخن وأننا جئنا لتناول طعام العشاء فقط وكان وهج جمر الأراجيل المجاورة يطال قسماً من جسم كلٍّ منا! من لائحة الطعام المغلّفة ببلاستيك شفّاف والتي كانت بعض جمرات قد أكلت من رونقها أخترنا صحن شيش طاووق مع حُمُّص وفتّوش. ما ان حضر الأكل حتى تناولناه ثمّ طلبتُ الحساب وقمت بتسديد المبلغ.
ما أن مشينا بعض خطوات في ممر المدخل حتى اعترضني أحد مستخدمي الموقف وسألني: “ ما هي سيارتك يا أستاذ؟” وأِذ كنت قد أبقيت سيارتي مركونة في موقف الفندق، أجبته أنه لا توجد معي سيارة. مال رأسه نحو اليمين ورمقني بنظرة عطف وابتسم ابتسامة صفراويّة وقال:” أِيه! أنشالله بيصير عندك سيارة!”
علّمتني الأيام أن شعوبنا قد تُقيِّم الانسان أحياناً بالملبس والسيارة. في بداية سنة ١٩٧٨ كنت قد قمت بزيارة ماساشوستس في الولايات المتحدة الامريكية وذلك لزيارة أقاربي. في تلك الأيام كان من المتعارف عليه ان يتحلى المسافر بأفضل ملابسه لدى ركوب الطائرة! إلا اني قررت ان البس ثياباً عاديّة لدى عودتي خصوصاً بعد ان تبضّعت من أمريكا سراويل “جينز” وقمصاناً قطنية بمربعات ملوّنة تشبه تلك التي كان يرتديها رعاة البقر! ما ان وصلت الى مطار بيروت بعد سفرة طويلة مرهِقة لم يكن يبدو علي اي مظهرٍ لائق حتى خرجت وانا أجرّ حقيبتيّ وأصررت ان لا أسمح لأحد الحمالة من ان يحمل اياً من أمتعتي!
ولما خرجت من باب المطار أوقفت أحدى سيارات الأجرة. الاّ ان السائق ضرب لي التحيّة وبادرني :”أهلاً أستاذ! تفضّل أستاذ!” وانا أنظر الى شكلي وأتساءل:”من أين رأى الأستذة؟” أصرَّ على أن يُحمِّل بنفسه الحقائب في الصندوق وصعد وراء المقود ونظر أليّ وقال:” شوف يا أستاذ! نحنا بنعرف الزبون من شنطه!” (وفطنتُ أني كنت أجرّ حقيبتين من ماركة “سمسونايت”)