بقلم : شريف رفعت
في صالة الركاب بالمطار أجلس منتظرا إقلاع الطائرة التي ستطير بي إلى مدينتي، أتأمل الركاب المنتظرين حولي، واضح أنهم من جنسيات و خلفيات مختلفة، منظرهم مـُـسَلي، أتأملهم و أتخيل فيما يفكرون و ما هي قصة كل منهم، البعض يطهر عليه المَلَل من الإنتظار، آخرون يبدون متحمسون لركوب الطائرة، قد تكون هذه أول رحلة جوية لهم، هناك شاب و شابة في ركن الصالة غائبان عما حولهما يتناجيان و يتبادلان النظرات الوالهة، فجأة أسمع صوت صريخ مزعج كأنه عواء حيوان، يلتفت الحاضرون منزعجون و أنا معهم لمصدر الصوت، هناك ولد في حوالي العاشرة يصرخ، أمه إمرأة مـُحـَـجـَبـَة تحاول تهدئته، تنظر له نظرة توسل حائرة، ثم تنظر للحاضرين و تبتسم لهم إبتسامة رجاء و إعتذار، يكف الولد عن الصريخ و يصيح «أريد أن أعود للمنزل، المنزل، المنزل»، الأم تحاول أن تتفاهم معه لكنه يستمر في ترديد الكلمة بصوت عالٍ و هو يهز جسده للأمام و الخلف، هناك ولد آخر مع السيدة واضح أنه إبنها الأصغر في حوالي الثامنة، يشعر بالحرج و الخجل من نظرات الناس المـُسَلـَطة على أمه و أخيه. بعد عدة دقائق يكف الولد عن الصراخ و الصياح و يسير خلال صالة الإنتظار و نظراته حائرة، إمرأة عجوز تجلس غير بعيدة عني، يبدو على وجهها تعبير الإشمئزاز و الغضب تغمغم بالإنجليزية «لا يعرفون كيف يربون أبناءهم»، الولد يستمر في السير كأنه يستطلع المكان، فجأة يصرخ مرّة أخرى صراخه المزعج ثم يردد «لا أريد أن أركب الطائرة، الطائرة، الطائرة» يقولها و هو يهز جسده مرّة أخرى هزات رتيبة متوالية، الأم تنظر له من على بعد، حائرة هل تأتي إليه أم أنه سيـَكـُف عن الصياح من نفسه، أقف و أشير له أن يقترب، ينظر لي ثم يقترب مُتهَيبا و قد كف عن الصياح، أبتسم له إبتسامة رقيقة و أقول له بصوت هادئ «إسمي شريف، و أنت ما إسمك؟»، يتردد لحظة، لاحظت أنه رغم قربه مني يتجنب النظر لي مباشرة، أكرر السؤال «ما إسمك؟»، يصمت للحظة ثم يصيح «ما إسمك، ما إسمك، نادر، نادر، نادر، إسمي نادر، نادر» أقول له بلهجة حميمية «نادر إسم جميل، دعنا نسير معا يا نادر في صالة الركاب هذه نستكشفها»، يصيح «أريد أن أعود للمنزل»، أقاطعه قبل أن يتمادى في صياحه «هل هذه أول مرّة تسافر بالطائرة؟»، لا أدري إذا كان فهم سؤالي أم لا، لكنه يصمت للحظة ثم يردد بصوتٍ عالٍ «لا أحب الطائرة، لا أحب الطائرة»، أسأله و أنا أحاول أن أظهر له إهتمامي «لماذا لا تحب الطائرة؟»، يصمت لحظة أخرى كأنه يحاول إستيعاب سؤالي ثم يرد بصوتٍ عالٍ و هو يواصل الاهتزاز للأمام و الخلف بنصف جسده الأعلى «أريد أن أبقى بالبيت، أريد أن أبقى بالبيت، البيت، البيت . . .»، أحاول أن أجد مواضيع أحدثه فيها، أسأله «من يسافر معك؟ أهما والدتك و أخاك؟»، يهمل سؤالي و لا يرد عليه، نتوجه معا إلى نافذة الصالة التي بإمتداد الحائط و تطل على ممرات إقلاع و هبوط الطائرات، أيدأ في الحديث معه عن المنظر بالخارج، أشرح له ما نرى محاولا تحويل إهتمامه عن رغبته في الرجوع لمنزله، يظل صامتا ـ و هو ما كنت أطمح إليه ـ لا أدري إذا كان يفهم ما أشرحه له أم لا، أنظر له بطرف عيني، على قدر كبير من الوسامة، لكن مع وسامته هناك شيء غير طبيعي حول ملامحه، شيء يوحي بعدم الإستقرار، بالقلق، بالتحفز، بالرغبة في الصياح.
يعلن مكبر الصوت عن بدأ دخول الطائرة، أسير مع نادر إلى حيث والدته و أخيه، تنظر الأم لي و تبتسم، تقول لي بإنجليزية ذات لكنة واضحة «شكرا، لقد ساعدتني كثيرا»، أبتسم لها و أسألها «أتتحدثين العربية؟»، ترد «نعم» ثم تكرر شكرها لي بالعربية، و نحن في طريقنا للطائرة تقول لي بصوتٍ منخفض منكسر و هي تنظر للركاب حولها «لا يدركون أنه مريض»، يوجعني قولها، أرد مواسيا «ربنا معكي، ربنا يصلح أحوالكما».
أجلس في مقعدي بالطائرة، تجلس الأسرة على بعد أربعة صفوف أمامي، الركاب مشغولون بالبحث عن مقاعدهم و وضع أمتعتهم في الأرفف العلوية، حركة الركاب حوله و غرابة المكان تثير نادر و تزعجه، يبدأ مرة أخرى في إصدار صريخه المزعج و الصياح «الطائرة لعينة، الطائرة لعينة، أود الرجوع للمنزل، أود الرجوع للمنزل، أود الرجوع»، صوته و صياحه هنا أكثر إزعاجا نظرا لضيق المكان، تحاول أمه أن تقنعه بالجلوس و الصمت، لكنه يظل واقفا يصرخ، الركاب كلهم منزعجون، المضيفة تسرع نحو الأسرة، الراكب المجاور مقعده للأسرة يبدو عليه الإنزعاج و الغضب، يتحدث مع المضيفة شاكيا من الموقف، يخيل لي أنه يطلب تغيير مقعده، لكن الطائرة ليس بها أي مقاعد خالية، المضيفة تحاول تهدئته و تطلب من الأم السيطرة على إبنها، الأم محرجة، تحاول التعبير عن عجزها و أنها طلبت من موظف شركة الطيران عند أخذ بطاقات الجلوس ألا يكون هناك مسافر مجاور لهم في المقاعد، الأخ الأصغر ساكنا ساهما مـُحْرَج من الموضوع برمته و من تصرفات أخيه، بينما بسبب النقاش حوله يصبح نادر أكثر إنزعاجا و بالتالي أكثر إزعاجا و يزيد من صياحه، أسرع أنا إليهم، أقول للراكب و للمضيفة أني على إستعداد لتبديل مكاني و أني سأجلس بجوار العائلة، ينظران لي بإندهاش ثم يشكراني، يذهب الراكب إلى مقعدي بينما أجلس أنا بجوار الأسرة، ينظر نادر لي، يخيل لي أنه تذكر لقاءنا في صالة الإنتظار، يصيح موجها كلامه لي «إسمي نادر، قلت لك إسمي نادر، أود الرجوع لمنزلي، أود الرجوع»، أنظر للأم التي إرتسم على وجهها نظرة عرفان بالجميل، أقول لها و أنا أخرج علبة دواء من جيبي «إعتدت في السفريات الطويلة أن أأخذ حباية منومة تساعدني على تحمل ساعات الطيران الطويلة»، ثم أشرت لها بالعلبة نحو نادر، تتردد لحظة ثم تهز رأسها موافقة، أقول لنادر وسط صراخه «هل اود أن تلعب لعبة مسلية؟»، يصمت لحظة، مازال يتجنب النظر لي، يرد «لعبة، لعبة»، أقول له «نعم، سأعطيك حباية مما معي و نرى من منا سيبلع حبايته أولا، أنا أم أنت»، لا أدري إذا كان فهم أم لا، لكنه ظل صامتا لبرهة، فتحت علبة الحبوب المنومة، أخذت حباية و أعطيته أخرى، سألته «هل أنت مستعد؟»، لم يرد، لكن عندما رفعت كفي لفمي ببطأ قلدني و بلع الحبة المنومة، قلت له بصوت هاديء منخفض «بعد قليل ستصل لمنزلك»، ردد «منزلي، منزلي»، ثم أغمض عينيه و نام.
و أنا أغالب النوم نظرت إلى الأم، على وجهها نظرة شكر و عرفان بالجميل، بدأت في الحديث، أعتقد أنها كانت تشكو من عدم فهم الناس عموما لمشكلة إبنها، لكني غير متأكد فقد إستغرقت أنا أيضا في نومٍ عميق.
تصل الطائرة لوجهتها، نخرج لصالة الوصول، نادر هاديء، قد يكون ذلك بتأثير الحبة المنومة، الأم تشكرني مرّة أخرى، أقول لها «ربنا معكي»، ثم مبتسما موجها كلامي للإبن الأصغر الذي ظل صامتا طول الوقت «ساعد والدتك، إعتني بها و بأخيك»، لوحت لهم و إنصرف كل منا في طريقه.
أصل لمنزلي، أقبل زوجتي قبلة سريعة، تنظر لي ممتنة لوصولي، تحضر إبنتي بضجيجها المعتاد، تصيح «أبي وصل، أبي وصل» ثم موجهة كلامها لأمها «لماذا لم تقولي لي أن أبي سيصل»، ترد زوجتي بصوتٍ هاديء «لقد قلت لكِ ذلك مرارا عزيزتي»، ترد الإبنة «لا لم تقولي، لا لم تقولي» ثم و هي تهز جسمها للأمام و الخلف في حركة عصبية «أحبك يا أبي، أحبك يا أبي».
تخنقني العبرات فأعجز عن الكلام و أضمها لصدري.