بقلم: تيماء الجيوش
سقوط نظام الأسدين كان حدثاً استثنائياً بمعناه التاريخيّ و السياسي. سيبقى في الذاكرة السورية القريبة كنظام لم يتردد في ارتكاب الكم المهول من العنف الدموي ضد أبناء بلده ، مُثيراً الانقسام الحاد بين طوائفه المختلفة للبقاء في السلطة، مُثيراً الخوف لدى معظم السوريين من سطوة الأجهزة الأمنية ، ذلك الخوف الذي بقي عالقاً في تفاصيل حياتهم من نظام ديكتاتوري لم يوفر وسيلةً ضدهم و ضد مطالبهم في الحريات و حفظها ، و حين فعلوا انتهى الأمر بهم في السجون، في الاعتقال، في أروقة التعذيب، في قوائم المغيبين قسرياً ، في الإعدامات الميدانية . لم يأبه حينها نظام الأسدين بأية معايير أخلاقية وان تبعات أعماله السياسية والأخلاقية ستلازم حقبته.
ولا غرابة في ذلك فنظام الأسدين كان لديه إستراتيجية واحدة في التعامل مع الداخل السوري ، سياسة داخلية تقوم على إرهاب امني ثم مزيداً من الإرهاب الأمني ضد السوريين. الحقوق الأساسية في حرية التعبير و حرية التجمع كان معاقباً عليها في ظل قانون الطوارئ و من ثم قانون الإرهاب. لم تكن تعنيه ما تقتضيه مسالة احترام الحريات و الحقوق الأساسية التي اقرها القانون و المجتمع الدولي. ذهب بالمجتمع السوري إلى فرقةٍ طائفية غير مسبوقة ، جعل الدولة أداةً بيده ، استغل الأقليات بخبثٍ و أولهم فقراء الطائفة العلوية . و لا غرابة ايضاً والحال هذه انه في المراحل المتعاقبة و منذ أن بدأت الثورة السورية في العام ٢٠١١ كان الانتقال السياسي غير ممكن و أقرب إلى المستحيل لان العقبة الأساسية أمامه كانت بشار الأسد . في السنوات ما بين ٢٠٢٠ و٢٠٢٤ عدَّ نفسه منتصر عسكرياً ، و رأى في المسار الدبلوماسي فرصة عليه أن ينتهزها للعودة إلى المحيطين العربي والدولي في عملية هي أقرب إلى إعادة موضعه الذي كان في العام ٢٠١١ ولا حاجة به للانتقال السياسي.
اليوم و نتيجة لهذه السياسة هناك تحديات و صعوبات عدة تواجه سوريا التي نحلم جميعاً بها لا سيما الانقسام الطائفي الحاد الذي تواجهه، سقوط الأسد إلى غير رجعة زاد من حدة هذا الانقسام و ذاك الأمل بالإطار الوطني الواحد لكل سوريا و كل السوريين بات أكثر صعوبة مع وطأة العنف الطائفي في عدة مناطق سورية في الساحل قبلاً و في السويداء ، و الآن حمص التي تترافق أحداثها مع الذكرى الأولى من تحرير سوريا من براثن الديكتاتور. أحدثت جميعها صدمة لدى السوريين ، كما أبرزت الحاجة إلى حماية المدنيين و حماية حقوق الأقليات ، الحاجة إلى أن يكون الجميع تحت مظلة الوطن لا ربح هناك و لا خسارة .
ما يثير الخوف الآن هو هذا العنف الطائفي و مآلاته التي من الممكن أن تزيد من ضعف سوريا وعدم استقرارها فتكون دعوة للتدخل الخارجي .
أياً كان ما تحتاجه سوريا اليوم هو وعياً وطنياً ، إنسانياً ، نضوجاً أعمق و قبولاً لجميع الطيف فيها على تنوعه الإثني، الديني، الطائفي عرباً، كرداً، مسيحي ، علوي، درزي، إسماعيلي، سني …إلخ
لو سألت أي سوري الآن عما تعنيه أو رأيه حول الطائفية في سوريا ؟ ربما سيردد كلماتٍ من الشجب و الإنكار وان السوري ليس انساناً طائفياً، نظامه القيمي لا زال هو ، و هذا حقيقي إلى حد ما، لأنه هكذا يرى نفسه ، لكن هذا لا ينفي ان هناك حالة من الصراع على أشدها لدى مختلف الفئات السورية عن الطائفية و قد تجلت كما ذُكرَ آنفاً من أحداث دامية توالت ، و ما تُلقي به وسائل التواصل الاجتماعي من ذم و قدح و سب كل فريق للفريق الآخر ، ما يحدو إلى السؤال عن تأثيرها القريب و البعيد في رسم مرحلة ما بعد نظام الاستبداد و بناء مستقبل سوريا ؟ لا يختلف اثنان أن الهوية الطائفية و ازدياد حدتها ساهم فيه و بشكلٍ كبير انزلاق سوريا نحو العنف و تجذرها الاجتماعي حدث و بحرصٍ شديد من قبل نظام الأسدين الذي وفر الوسائل لها و استغلها إلى حدودها القصوى. يعلم الباحثون وأصحاب الخبرة في المنطقة أن الهوية الوطنية أو الهوية السياسية تطورها كان معقداً و مترابطاً و ان هذا الجذب و الاستقطاب الطائفي له العديد من الأسباب السياسية ، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية وليس نتيجة لعداوات قديمة . و لا يمكن بأية حال القبول بانهيار الدولة لان هذا يعني مزيداً من العنف الطائفي و مقتلة للمدنيين . لن تنتهي ارتدادات أربع و خمسون عاماً من الاستبداد بين ليلة و ضحاها ، كما لن يكون بناء الدولة سلساً و هادئاً هكذا يقول التاريخ و هذا ما تُنبئ به مقدمات الإثني عشر شهراً الماضية ، لكن المساحة موجودة ومؤاتية لان تتقدم النخبة بحيوية و تعمل على أحداث التغيرات البنيوية ، إلى جانب حوار وطني مفتوح يضم الآراء جميعاً على خلافها و تنوعها و تضاربها ، وان يرافق هذا وذاك المضي قدماً في الملف الأمني، الملف القضائي، التحديث التشريعي و احترام سيادة القانون. و الأهم الهوية الوطنية السورية و تعزيز درجة التماسك بين أفراد المجتمع ، ثم المواطنة التي تؤسّس علاقات اجتماعية حديثة تقوم على مبدأ المساواة و تحترم حقوق الجميع، و أنهم شركاء في الحياة السياسية و الاجتماعية في إطار من النظام السياسي و صبغته الشرعية للهوية و يدعم هذا كله عقد اجتماعي ينص عليه الدستور و يوازن بين السلطات و الأفراد و علاقاتهم .
مر العام الأول و قد انتهت سوريا من قبضة الأسدين و تحررت ، ولا عودة للديكتاتورية ، لا عودة للاستبداد . تبقى حريتنا مرهونة ببناء الهوية الوطنية الجامعة بعيداً عن أي تمييز اثني ، عرقي، ديني أو جندري ، باحترام ما يجمعنا و ما يميز احدنا عن الآخر. كل عام و لكم المزيد من الحرية والكرامة .













