بقلم: نعمة الله رياض
جلس صبري مع اصدقائه يتسامرون في مقهي صغير في جبل الدراسة ، كان يغلب علي جو المقهي رائحة دخان السجائر والشيشة والمشروبات الساخنة وأينما تجولت فيه تجده معبقا” برائحة القمامة التي تعود رواد المقهى عليها ، فجمع القمامة وفرزها من صميم عملهم .. سرح بذاكرته إلي الماضي عندما إختار أن يلتحق بكلية الزراعة ، كانت الدولة تروج لمشروعها القومي (توشكي) . كانت الحملات الترويجية تستهدف الشباب لتحفيزهم على ترك العاصمة والانضمام إلى المشروع العظيم. لذلك، أعلنت الدوله حينها قراراً بتمكين خريجي كليات الزراعة من الأراضي بتوشكي مجاناً بهدف استصلاحها سعياً وراء الحلم الموعود ، ولكن تعرض تنفيذ المشروع لمشاكل تقنية وادارية جعلته يتباطأ الي حد التوقف ..
تخرج صبري من الكلية، كما تخرجت حبيبته التي عاهدها علي الزواج ، ولكنها تزوجت من شخص آخر، كما يحدث كثيرا” للحب الأول أو ربما لأنها كانت لا تطيق فكرة الإرتباط بشخص مفلس وفي بداية حياته العملية ..أدرك صبري أن شهادة كلية الزراعة لا قبمة لها وانها ليست هي المشكلة الحقيقية، بل لإنه تخرج في عهد الامتداد الخرساني مقابل تآكل الأرض الزراعية التي بدأت في التهام الحدود المصرح بها للمباني. وما فعله صبري حينئذ هو أنه ركن شهادته وراح يتنقل من شغل لأخر مهما كان صغيرا” حتى دفعت به الأزمات المتكررة أن يفكر في إختيار آخر الا هو جمع النفايات .. حدث نفسه قائلا :-
إن جمع النفايات تعتبر مهنة مستدامة، على عكس أى مهنة أخرى قد تشهد ركودا” فى بعض الفترات، بينما القمامة تحتاج دائما لمن يجمعها كل يوم..أيضاً
لا يهم الوقت الذي سيبدأ فيه عمله أو متى سينتهي، ولا يشغله أين سيعمل… فالمهنة التي يعمل بها ليس لها مُديرون يحددون مواقيت العمل، ولا عملاء في انتظار إنتاجه، ولا محل إقامة لوظيفته. فهو صاحب المشروع، مدير نفسه، رأسماله، جوال فارغ يحمله وينطلق حيث يلتقط رزقه من الشوارع والطرقات …
فطبيعة عمله، تبدأ (بالسرحة) عندما تٌفرغ جيوبه من المال. فيآخذ جواله وينطلق على حسب ما تقوده قدماه حيث لا جهة معينة ..في رغبة منه للاستعلام قبل ان يقرر الإنخراط في مهنته الجديدة زار نقيب الزبالين بالقاهرة الكبرى، الذي اخبره أن
إحصائيات وزارة البيئة تشير أن حجم المخلفات في مصر سنويا يصل اليً 90 مليون طن، 26 مليون طن منها مخلفات صلبة ، هذا الكنز المُتجدد لفت أنظار الدولة في مصر، فقررت أن تزيد عدد مصانع إعادة التدوير من 28 مصنع إلى 58 مصنع. بالإضافة الى أن مركز إدارة تنظيم المخلفات بوزارة البيئة قرر إعفاء الشركات الصغيرة العاملة في مجال تدوير المخلفات من أي رسوم لممارسة النشاط، وعن الأسعار السائدة للمخلفات ، قال النقيب:- القمامة فى مصر”كنز لا يفنى”.. النايلون الأبيض و”الكانز” يتصدران أسعار بورصة المخلفات الصلبة..أعلي سعر هو للنايلون الأبيض الذى يتم تغليف الثلاجات والأجهزة الكهربائية الجديدة به، حيث يصل سعره الي 7 آلاف جنيه للطن، ثم زجاجات المياه المعدنية، والتى يقدر سعر الطن منها بـ 5 آلاف جنيه ، وعبوات “الكانز” لأنها ألومنيوم خام، فإن سعر الكيلو منها بـ22 جنيهًا، لافتا إلى أن الكيلو يحتاج تجميع أكثر من 100 علبة. وأشار إلى أن الطن من الكارتون والورق سعره 2000 جنيه، و300 صنف من البلاستيك أسعار الطن منها ما بين 1500 و2000 جنيه، ويأتى الزجاج فى المرتبة الأخيرة حيث يصل سعر الطن من 400 إلى 500 جنيه، وهو أرخص السلع ، وعن سؤالي له أن كل الناس تري أن الزبال يربح ذهباً ، رد قائلا :- إن دخل الأسرة شهريا يصل من 3 إلى 5 آلاف جنيهاً فى المناطق الشعبية.. ويصل إلى 10 آلاف بالمناطق الغنية ، وذلك لا يأتى بسهولة، فالأسرة كاملة تعمل من الساعة الرابعة فجرا فى الجمع، ثم الفرز بالمنزل بحى الزبالين، ويظل لمدة أسبوع يجمع ويفرز لبيع ما تم تجميعه ..أيضاً قبل أن يقرر الإلتحاق بهذه المهنه ، ذهب لمقابلة العم يوسف، صاحب مخزن لتجارة المخلفات ، قال يوسف:- ظلت مهنة الزبال قاصرة على الأقباط حتى عهد السادات. البعض كان يقول إن القمامة تعتبر من النجاسة لذا لا يعمل بها مسلم، والبعض الآخر ربط المهنة بتسمين الخنازير حيث كانت القمامة قديماً تُقدم كوجبات يومية لحظائر الخنازير المنتشرة بمصر القديمة وجبل الدراسة. كما أن القمامة كانت تُحرق في مستودعات الفول لتساعد على تدميسه، وتستخدم كذلك في الحمامات الشعبية كوقود ، وأستطرد العم يوسف قائلاً : دائماً ما كانت نظرة المجتمع الى الزبال نظرة تعالٍ. صحيح أنها مهنة حلال، ولكن المجتمع يعتبرها قاع الحلال. بالطبع يمكنك أن تتعاطف مع جامع القمامة، ولكن من الصعب مثلاً أن يصبح صديقك، ناهيك بل من المستحيل أن تزوّجه من أختك أو ابنتك ..هذا بالضبط ما حدث له ، فبعد أن ادخر مبلغا كبيراً من المال يكفي لإستئجار شقة في حي سكني متوسط وتأسيسها ، تقدم لخطبة فتاة أعجبته ،لكن أهلها رفضوا بحزم فور معرفتهم طبيعة عمله كزبال !! ، تلك النظرة أجبرت عمال هذه المهنة على إنشاء مجتمع خاص بهم في قهاوي تجمعهم عند الراحة، تقاليد متفردة عند الزواج، لغة للتفاهم بعيدة عن فضول الزبائن لذلك نجحت محاولته الثانية للزواج من فتاه من حي الزبالين ، ورزق الزوجين بثلاثة أطفال ..
الان وقد أصبح يعيش حياة مستقرة مادياً واجتماعيا ، واكتسب خبرة كبيرة في التعامل مع كافة العاملين في المهنة من جمع وفرز واعادة تدوير سأل نفسه :-، لماذا لا يرشح نفسه لمنصب نقيب الزبالين بالقاهرة الكبري ؟ فهو مُثقف ومتعلم، وحاصل على بكالوريوس الزراعة من الجامعة وعنده خبرة كبيرة في هذه المهنة .. لقد إتخذ صبري شعارا لحياته لكي يعيش فيها راضياً، وهو :
أعمل ما لا تحب حتى تحب ما تعمل !!