بقلم: إدوار ثابت
نحن نستغرب لماذا أنأى أفلاطون هوميروس عن جمهوريته فهوميروس قد كتب ملحمتين من أشهر ملاحم التاريخ وهما الإلياذة والأوديسا وقد كان لهاتين الملحمتين أثر كبير على الآداب الأغريقية وعلى الآداب العالمية التي جاءت بعدها : فقد أستوحى منها شاعر التراجيديا الأغريقي يوريبيدس Euripiee (القرن الخامس قبل الميلاد) كثيراً من أعماله ومسرحياته الكلاسيكية أندروماك Andromaque(هي زوجة هيكتور البطل الطروادوي الذي قتله أخيل بطل الأثينيين لقتله صديقه بتروكل وأفيجيني Iphigénie(أبنة أجاممنون التي ضحى بها حتى تهب الرياح التي عصت لتبحر السفن إلى طروادة) وألكترا Electre (أبنة أجاممنون التي سعت هي وأخوها أوريستيس إلى قتل كليتمنسترا وأيجيستوس) والطرواديات les Troyennes وهيلين Hélène (زوجة مينلاوس ملك أسبرطة التي خطفها باريس ودفعت إلى حرب طروادة) وهيبوليت Hippolyte (هو الذي ينفر من سلطة وعبادة أفروديت ويقدس أرتميس إلهة القمر والصيد (هي ديانا عند الرومان) فينشأ الصراع بين الألهتين في مسرحيته يوربيدس والتي أستوحاها راسين في مسرحيته فيدر وأوريست Oreste (أبن أجاممنون وأخو ألكترا) وهيكوب Hécube : (زوجة الملك بريام ملك طروادة) والسيكلوب Le cyclope (العملاق ذو العين الواحدة الذي فقأها أوديسيوس ومن معه فغضب عليه بوسيدون إله البحر فعرقل رجوعه إلى بلده فأستعطفت أثينا زيوس ليتيح له الرجوع إليه وإلى زوجته.
وأستوحى معه شاعر التراجيديا الأغريقي سوفوكليس Sophocle في نفس القرن أجاكس Ajax (من أبطال اليونان أمام طروادة) وألكترا وفيلوكتيتPhiloctète (من شخصيات الألياذة).
ثم أستوحى فيرجيل Virgil الشاعر الروماني في القرن الأول قبل الميلاد من الألياذة أو أستكمل أحداثها في ملحمته الأنياذة Énéide التي تحكي عن هروب بطلها أنياس أبن الملك بريام بعد سقوط طروادة فيتجه إلى إيطاليا ويكون الأساس في تأسيس روما والأصل اللاتيني .
ثم يستوحى دانتي Dante الشاعر الإيطالي في القرن الرابع عشر أسلوب الملحمتين فيكتب ملحمته الكوميديا الألهية La divine comédie والإنجليزي جون ميلتون John Miltonفي ملحمته الفردوس المفقود Le Paradis Perdu ويأخذ راسين Jean Racine الشاعر الفرنسي في القرن السابع عشر عن الألياذة أو عن يوريبيدس تراجيتيه اندروماك وأفيجيني كما يكتب جوته Goethe الأديب الألماني في القرن الثامن عشر أفيجيني في توريد Tauride شبه جزيرة في أوكرانيا أستعمرها اليونانيون في القرن السادس قبل الميلاد .
ولم تؤثر الألياذة والأوديسا على هذه الأعمال فحسب بل نفذت من هاتين الملحمتين في العصر الحديث بعض الأفلام السينمائية . . الفيلم الإيطالي أوليس Ulyse تمثيل كيرك دوجلاس إخراج ماريو كاميريني عام 1954 والفيلم الإيطالي حرب طروادة تمثيل ستيف ريفز وإخراج جورجيو فيروني عام 1962 والفيلم الإنجليزي الطرواديات تمثيل كاترين هيبورن وإخراج ميكائيل كاكوجيانيس عام 1971 والفيلم الأمريكي أوديسا Odysée تمثيل ارموند سانتي وإخراج أندريه كونشالوفسكي عام 1997 والفيلم الأمريكي طروادة Troie تمثيل براد بيت وإخراج وولفجانج باترسون عام 2004 . من كل ذلك فنحن نستغرب ما قاله لافونتين في مقدمته عن رأى أفلاطون في هوميروس ونأيه عن جمهوريته على الرغم من أننا لا نشك في أنه أعطاه حقه الأدبي في الأدب الأغريقي وعلى الرغم من أن أرسطو الذي تلا أفلاطون قد أبرز القيمة الأدبية لهوميروس ولاسيما في هاتين الملحمتين مما دفعنا إلى خشيتنا أن نعارض رأيه أو نتحفظ فيه . نحن نستغرب رأي أفلاطون في هوميروس. لم نلحظ ما أخذه هويبردوس الذي سبقه والذي كان صديق سقراط أستاذه عن هوميروس وما أخد عنه سوفوكليس . أتراه لم يدرك أهمية هاتين الملحمتين حتى تؤخذ عنهما أو تستوحى منهما كل هذه الأعمال الأدبية والفنية ولم يتوقع أن يأتي بعده من يتأثر به وبأعماله وآرائه فيستوحى منه فيرجيل ويتمثل أسلوبه دانتي وجون ميلتون ويستوحى راسين فيكتب مسرحياته ويكتب جوته مثله ، وأن تنفذ من ملحمتيه هذه الأفلام السينمائية الكثيرة . ومع ذلك فنحن لا نعرف ما الذي دفعه إلى هذا الرأي فأنأى هوميروس عن جمهوريته وأعطى مكاناً مشرفاً فيها لإيسوب ، ولكننا في أغلب الظن نرجع ذلك إلى أمرين أثنين . أما الأمر الأول فهو كما يبدو أن أفلاطون رأى في حكاياته (أي أيسوب) من الفضائل والحكم وما يمس الأخلاق والمبادئ التي تتواءم مع آرائه التي وضعها في جمهوريته . أما الأمر الثاني فهو أن أفلاطون كان يؤمن كاستأذه سقراط بإله واحد ولايعتقد مثله بتعدد الألهة التي يحكي هوميروس عنها في ملحمتيه ولا يستسيغ هذه الألهة التي تتضمنها ، وعن علاقتها بشخصياته وأبطاله فتحرك فيها الأحداث وتدفع الشخصيات إلى تحريكها , ولنرجع مرة ثانية إلى لافونتين فيظل بعد ذلك ما كتبه عن أيسوب في مقدمة مجلده الأول من مؤلفه Fables التي أهداها إلى الدوفان ، وهي التي نظمها شعراً وعنونها : إلى سيدي الدوفان Dauphin À mon seigneur le يوضح فيها النمط الذي يحكي به حكاياته ويستخدم فيه الحيوانات ليبرز ما يرغب ويثقف به الإنسان فهو يقول : إني أتغنى بالأبطال الذين أبوهم إيسوب
فهم فرقة تهذي بهم قصتي وتشمل مع ذلك حقائق تقدم دروساً وتتحدث كلها في مؤلفي حتى الأسماك منها فتقول وتخاطب الكل أينما نكون فأنا أستخدم الحيوانات لأثقف الإنسان وهذا هو نصها الفرنسي:
Je chante les héros dont Esope est le père … troupe de que l’histoire, encore que mensongère … contient des vérités qui servent de leçons … tout parle en mon ouvrage, et même les poissons … ce qu’ils dissent, s’adresse à tous tant que nous sommes … Je me sers d’animaux pour instruire les homes.
ونلاحظ فيها أن وزن الأبيات من أثنى عشر مقطعاً Alexandrin وأن القافية منبسطة Plates بين البيتين الأول والثاني ثم تتغير فتكون بين الثالث والرابع ، وتستمر هكذا في كل القصيدة (AABB) .
أما الكاتب الثاني الذي أستوحى منه لافونتين بعض حكاياته فهو فيدر Phèdre الروماني وأسمه باللاتينية Phaedrus الذي عاصر القرن الأول الميلادي . ومن المستغرب أنه كان عبداً كإيسوب وتحرر مثله من عبوديته وقلده في حكاياته وأستوحى بعضها منه ، ولكنه لم يكتبها مثله بالنثر فنظمها شعراً فكان بذلك المبدع لهذا النمط من كتابتها في الأدب اللاتيني وشاع بعد ذلك هذا النمط في روما ، ومع ذلك فقد ظل فيدر مغموراً لفترة طويلة فلم يعرف إلا في عصر النهضة Renaissance : هذه الكلمة الفرنسية تنسب إلى حركة ثقافية أدبية وفنية وعلمية نشأت في أوروبا الغربية في بداية القرن الخامس عشر أعقبت العصر المتوسط كانت تهدف إلى تجديد القيم القديمة الإغريقية والرومانية ، وقد بدأت في إيطاليا ثم انتشرت في أنحاء اوروبا ، أما في فرنسا فقد شاعت في القرن السادس عشر فغدت مرحلة أدبية غنية مع مؤلفات رابليه Rabelais ومونتاني Montaigne ورونسار Ronsard ودو بيلاي Du Bellay وهذا عندما اكتشفت بعض المخطوطات التي عرف منها وعرفت بها هذه الحكايات .
وقد كتب فيدر حكاياته في مجلد من خمسة كتب حوت حوالي مائة حكاية وضع لكل كتاب فيها مقدمة Prologue وأنهاها بخاتمة Epilogue أما الكتابان الأول والخامس فلم يضع لهما خاتمة وله فيهما أسلوب مختصر به نقد ساخر وأستعارة تغلفه . ولم يتحدث لافونتين في مؤلفه فابل Fables كثيراً عن هذا الكاتب مثلما تحدث عن إيسوب ، فهو يقول عنه في المقدمة التي أصدرها بها بعد أن يقول أن أيسوب كانت الحكايات في زمنه تحكي ببساطة مغزاها الأخلاقي منفصلاً ودائماً يتبعها ثم جاء فيدر الذي لم يخضع لهذا النظام ، فإذا هو يجّمل رواية القصة وأحياناً يحرك المغزى من النهاية إلى البداية. وهذا نصها الفرنسي :
Phèdre est venu qui ne s’est pas assujetti à cet ordre, il embellit la narration et transporte quelquefois la moralité de la fin au commencement.
البقية في العدد القادم