للكاتب الدكتور / زياد بشاره أفرام
رواية اجتماعية واقعية
أيعقل بأن لَمسَتَكِ الحنونة هي من أعادتني إلى الحياة مجدداً!
عندما اشممت رائحتك، وأحسست بلمسك عادت إليَّ الروح، كنتُ ماضياً في ذلك النفق، بآخره نقطة بيضاء فاصلة بين الحياة والموت، بين أن أعبر لأرى وجه الخالق النقيّ وبين أن أعود لأرى وجهك الحنون، وقَلبكِ المتواضع الذي لا يريد سوى رؤيتي، وحُبُّكِ الذي يضمَّني بين ذراعيكِ بلهفة عاشق!
عُدْتُ لأستمتع بدفء صدرك، وأتأمل جمال الخالق بوجهك وروحك، وبحُبَكِ غير المشروط! تألمت وأنا في طريق العودة تعذبت، لكنني كنت على يقين بأن عذابات العودة والحياة مجدداً سوف تزول عند ملامسة يديك، وتقبيل وجنتيكِ اللؤلؤيّتين!
ولدت في ضيعة، كنا نلهو كثيراً بين حقول القمح وبيدره، نعود منهكين إلى الساحة لنصدف أمام دكان أبو فريد القديم، ونتكئ على بابه الخشبي الصلب كصلابة صاحبها، وقد أنهكته الأيام، ومرّ عليه الزمن، وغدر به كما غدر بغيره من أهل الضيعة. وذلك للظروف القاسية التي كانت تمر بها البلاد من حرب غوغاء طائفية، وتعنت رجالها وتخلفهم بتمسكهم بالعادات القديمة الرثة. وانقساماتهم البيئية الطائفية التي لم تكن لها أي قانون، سوى قانون السيطرة الذكورية. لنجد الرجل يتباهى عندما يرزق بطفل صبي، وينهار ولم نعد نراه في تلك الساحة عندما تلد زوجته فتاة ظناً منه بأنها السبب!
يا لهذا الزمن كيف حطمنا وبتنا نقف في طابور لنجلب الخبز والمياه وغيرها لقوتنا اليومي، نقف متشنجين لا نعلم متى تبدأ القذائف تنهمر علينا، لتحطم أمام أعيننا كل الأماكن التي كنا نلعب بها، وخاصة الساحة المزينة بجامعها وكنيستها متلاصقين ببعضهما البعض، وكأنهما توأم! فكان الآذان يعلن وقت الصلاة والمغيب، وكانت الأجراس تنده ببدء القداس على مدار الأسبوع! مشهد لن يعود من قساوة ما مر على رجالها المتخلفين، كيف انقلبت الساحة ولم تعد صالحة للاجتماعات القروية، ولا للأعياد التي كانت تزين الضيعة! لم يعد أبو جورج يلعب النرد مع أبو أحمد، لن تجلس أم محمد مع أم طوني لرشف القهوة أمام العتبة الواحدة التي كانت تجمع التوأم مع بعضهما البعض! ويمضيان ساعات تخبران أحاديثاً كانت تجمع بينهما من أعراس وخطبة، لم يعودوا يتشاركون همومهم ولا أفراحهم ولا حتى أحزانهم!
ولدت في تلك الضيعة الفريدة المُحبْة، وسوف تبقى الذكريات في مخيلتي وكأنها البارحة، عدنا من اللعب لنقف أمام ذاك الدكان الوحيد الموجود. وأنا في سن المراهقة اضطررنا قسراً إلى مغادرة منازلنا، وترك كل تلك الذكريات، وامتعتنا، والعابنا، غادرنا ونحن على عجل من أمرنا وكأننا كنا نلفظ أنفاسنا الأخيرة. جمعت أمي ما استطاعت من أغراض، قاد أبي السيارة، جلست في المقعد الخلفي مع إخوتي. وبدأت رحلة النزوح إلى المدينة. كانت الشمس غادرت أيضاً معنا ونحن نشق طريقنا، وضعت جبيني على الزجاج اراقب كيف كنا نبتعد شيئاً فشيئاً عن الأماكن التي تَركتُ فيها طفولتي المحطمة المهمشة! وألعابي التي أكيد سوف تشتاق لي ولتحطيمها! كما فعلوا الكبار بنا. حطمونا وللأسف لم يبالوا بذلك. حطموا الإنسانية بداخلنا، حطموا الطفولة البريئة. أبعدونا عن التوأم الذي كنا نتباهى به، حطموا المئذنة كما حطموا الأجراس! لم يكّترثوا لشيء سوى لأنفسهم وكبريائهم. كيف تغير كل شيء بلمحة بصر، كيف تفرّق الجميع بمن فيهم الشيخ والكاهن. كيف ذلك ألم يعلمونا كل يوم عن أحاديث الرسول، وعن افعال المسيح. كيف لهم أن يملوا علينا هذه الاقاويل وهم بعيدون كل البعد عنها!
وصلت السيارة بعد عناء الطريق ومشقة الرحلة، إلى حاجز لم يعلم والدي لمن ومن هم! عدّة مرات كانوا يفتشون السيارة خوفاً من أن نملك شيئاً ضدهم. يا لكم من جبناء! كنت أتساءل عمّ إذا يبحثون، نحن عائلة نزحت من أعالي الجبال إلى بيروت. لتستقر في منزل يكاد يتسع لشخصين. اراقب والديَّ كيف كانوا ضائعين مما يجب فعله لحمايتنا، لم يملك والدي أيَّ خيار آخر سوى المكوث في ذلك المنزل، إلى أن تهدأ العاصفة الطائفية! استيقظت على مئذنة الجامع تعلن وقت الفجر، ومن بعيد البعيد صوت كنت قد تعودت أن أسمعه يومياً أجراس الكنائس! عرفت وقتها بأننا أصبحنا فيما يسمى المنطقة الغربية للعاصمة. توجهت إلى شرفة المنزل لأستدرك أين نحن. سقطت الدمعة من عيني عندما رأيت الدمار الهائل والحرائق التي ما زالت مشتعلة. وما هي إلا لحظة أجهشت بالبكاء، لم يبالِ بي أحد ولم يرَني أحد!
استيقظت بعد أقل من سنة، على الصوت أبي يأمر والدتي أن تحزم ما تستطيع من أغراض للمرة الثانية، لأننا سوف نغادر وفي الحال. لا أحد يعلم إلى أين، صرخ والدي علينا وأمرنا بالصعود إلى السيارة، التي أصبحت مهترئة وضجيج محركها يسمع من الحي المجاور. لكنها أبت أن تقف، وما هي إلا دقائق وغادرنا. اتكأت مجدداً على الزجاج واضعاً جبيني عليه كعادتي. لكنني لم أعد أكترث بما سوف أو إلى أين كانت وجهتنا. كانت أمي هي الدواء في كل هذه الأزمة! يا لها من أم حنونة متكابرة على جراحها والآمها، عنيدةٌ لم تقبلُ الهزيمة يوماً، صارعَت كل فترة الحرب. لست عالماً كيف أو إذا بإمكاني وصف تلك الأيام المآسي!
بل عُدْتُ لأجْلَكِ!
انظر إلى المرآة يومها المعلقة على حائط بيتنا الجديد، ولسخرية القدر كان في المنطقة الشرقية للمدينة، أو كما كان الفرقاء المقاتلون يسمّونها. اشاهد ملامحي البارزة كيف أصبحت شاباً رياضيّاً. وكان أول نهار لي بالجامعة. حيث استأجرت بيتاً صغيراً “Studio” بالقرب من الجامعة لاختصار المسافة والوقت، التي كانت بعيدة بعض الشيء عن منزلنا الذي أصبح بيتنا! كنت أعشق العودة إلى المنزل كون الحي كان يضم الجامع والكنيسة “التوأم”، ومنذ اليوم الأول في ذلك المنزل عدت أسمع المئذنة مع أجراس الكنائس، عُدْتُ بالذاكرة لطفولتي السعيدة التي كنت قد عشتها آنذاك!
رياضياً من الدرجة الأولى مثابراً في دراستي، طموحاً إلى أبعد الحدود. وضعت هدفي الأول أمامي، وما أن اقترب منه حتى سقطت!
في ذلك يوم المشمس في فصل الصيف، وكالعادة الحرارة مرتفعة ولهيب الشمس يدخل إلى الاستوديو حارقاً كل شيء. وبعد عدة اتصالات مع فريق الصيانة لإصلاح تلك الستارة لم أفلح بإقناعهم على ذلك، وقفت على حافة السرير الذي كان شبه ملاصق للشباك الوحيد الموجود، والتي كانت الستارة تتدلى منه مكسورة. قفزت لأتمسّك بها وفكها من مكانها. إلا أنها خانتني! ولحظة وصولي إليها، وضعتُ يدي عليها لإصلاحها، سَقطّتُ معها من علو ثلاث طوابق وأنا مستمر بالتمسك بها، ارتطمت بالأرض محطماً هالكاً، لم أعد أستطيع حتى التنفس من شدة الضربة والسقوط من هذا العلو.
صحوتُ من غفلةٍ امتدّت شهورًا طويلة، حيث كنتُ في غيبوبةٍ تامة. لا أحد يعلم كيف، ولا لماذا، ولا ما الذي حدث في ذلك المساء. لم أستعد وعيي بالكامل، لكنني لم أعد أقوى على الحراك. تحطّمت، سقطت، تهشّمت. أصبحت طريح الفراش، عاجزًا، غير صالح للحياة كما كنت. صرت عبئًا على عائلتي، عاهة في نظر الجميع… إلا والدتي. وحدها كانت ترى النور في عينيّ رغم الظلمة. أصبح القريب والبعيد يوجّه إصبعه إليّ: إلى وجهي، شكلي، مشيتي، وكل ما تغيّر فيّ. كلّ شيء أصبح عرضةً لنظراتهم… كلّ شيء، إلا روحي التي لم تُهزم. متكسراً ولست منكسراً! مُتحطّماً ولست مُحَطَّم! بدأت رحلة الألف ميل بأول خطوة. زرت عدة أطباء من عدة اختصاصات، لأتمكن من المشي مجدداً، والتكلم بشكل صحيح، ومن تحريك يديَّ اقله كما كانتا……..الخ. كانت فترة ضياع بالنسبة لي، عُدّتُ طفلاً ترعاني والدتي، وأنا شاب له أهدافه لكنه لا يقوى على فعل أي شيء!
تلك الليلة، كانت ليلة عاصفة تحمل معها البرق والرعد، والبرد القارس، وأنا عابرٌ إلى آخر ذلك النفق، وقبل أن المس وأصل لذلك الضوء، وهو العبور من الغيبوبة إلى العالم الآخر الذي لا أحد يعرف ما هو! ولا أحد لمسه بعد! شعرت بتدفق نقطة دماء من قلبي باتجاه عقلي! شعرت وكأن العاصفة المصطحبة معها البرق والرعد توقفت، شعرتُ بالدفء والحرارة ينبضان في أحشائي وكياني. شعرتُ بتلك النقطة من الدم تلامس جبيني، كأنها تناديني… عُد إليَّ! كان دفؤها متوهّجًا، ملتهبًا. لم تكن كسائر قطرات الدم، بل كانت فريدة من نوعها، مميزة في حجمها ووقعها.
شعرتُ بتلك القطرة من الدم تتسلل إلى أوردتي، تُحييني من جديد. شعرتُ في تلك اللحظة وكأنني الجنين يخرج من أحشاء أمّه، ترافقه حياةٌ جديدة، وتغمره أمّه بعطفها وحنانها، تضمّه إلى صدرها الدافئ ليطمئن ذلك الطفل الذي هو “أنا”! شعرتُ بملائكةٍ تقف بقربي، لم تخذل والدتي، ولم تدَعها تنكسر مرة أخرى. فتحتُ عينيّ بعد كل تلك المشاعر المختلطة بالألم والتعب، لأراها منحنيةً فوق رأسي، وتلك القطرة من الدم التي خرجت من عينها، كأنها أُخذت من قلبها وروحها. لتكون أمانةً في سبيل إعادتي إلى الحياة، وعودتي إليها على أجنحة الملائكة.
قلت لها: عُدْتُ لأجْلَكِ!