بقلم: مينا بشير
قد يَمُرُّ المرءُ أحيانًا بفراغٍ قاتِم، حيث لا فكرةَ تَقرَعُ بابَ لُبِّهِ الموصَد. قد يَجلِسُ الشاعرُ مع ورَقَتهِ البيضاء لساعاتٍ مُتَراكِمة، يسودُ الصمتُ بينَهما و يجلِسُ بينهما كضيفٍ ثقيل ، كأن ذلك الفراغَ يَسُدُّ بجسَدهِ الضخم طارفَ القلمِ المسكين ويُصدِرُ أمرهُ بحضرِ خروجِ الحروفِ و تَجوالِها في العالم الفَسيح. قد يُمضي الموسيقيُّ أيامًا و شُهورًا تحت سقفٍ عازلٍ للإبداع، كأنه يرتَدي خوذةً ثقيلةً مُضادّةً لدخولِ شَظايا الأفكار، يجلسُ بمُفرَدهِ في فضاءٍ خاوٍ، حيث تنفُرُ النوتاتُ الموسيقيةُ من بعضِها كالأعداء، و أذناهُ فارِغَتانِ من كل صوت، يتَوَسَّدُ الصمتَ المُخيفَ في كل لحظة. أما الكاتبُ المسكين فهو أكثرُ عُرضةً لنَوباتِ الفراغ، حيث تغيبُ الأفكارُ و المواضيعُ عن أفُقِ بالهِ بينَ الفينةِ و الفينة، فيُُلفي نفسهُ فجأةً ضحيةً لشعورِ العجزِ المُنقَضِّ عليه، يقِفُ حائرًا أمام كومةِ حُروفٍ مُبعثَرةٍ أمامه، إنها أشبهُ بأحجيةٍ مستحيلة. لا يستطيعُ الإمساكَ باللغةِ الهارِبةِ من زنزانةِ عقلهِ بسرعةِ الضوء. تُصبِحُ الكتابةُ أصعبَ حِرفةٍ في الوجود، و يغدو اغتِصابُ الحُروفِ من أحضانِ الأثيرِ عملاً مَشبوهًا أو حتى مُحَرَّمًا. هناك ما يمنَعُ انسيابَ الفكرةِ من حَنايا رأسه المُتَيَبِّسة، فلا يرى أمامهُ سوى العدم.
هذه هي المرحلةُ التي كنتُ أمُرُّ بها منذ فترةٍ وَجيزة. هناك ما يَمنَعُني من الكتابة. ربَّما هو الخوف، أو شبَحُ القلقِ الذي يفتَرِشُ بلاطَ عقلي في كل ليلة، أحيانًا تتَزاحَمُ الخواطِرُ في رأسي تَزاحُمَ البشرِ على لُقمةِ العَيش، و أحيانًا أخرى تترُكُني الأفكارُ لترحلَ إلى عالمٍ آخر، إلى عالمٍ مُوازٍ و مِثالي، تترُكُني مع الخَواءِ و شعورِ التأنيب . هيا أيها الإلهام، هيا، هيا! ثم يأتيني الصمتُ كإجابةٍ على هذا الاستِدعاء. ذهبتُ مرّاتٍ و مرّاتٍ إلى نفس المَقهى الذي شَهِدَ على إبداعي، لكن الإلهامَ يكونُ خارجَ التَغطية… ما زلتُ لا أفهمُ سببَ غيابِ الإلهام، ربما هو قدَر، إو أنها حالةٌ تُسَمّى باللغة الإنجليزية (حَظر الإبداع) تصيبُ كل مُبدِع، أو ربَّما تكونُ اللغةُ مَشلولة، بمعنى أن الفكرةَ موجودةٌ في رُكنٍ ما من الذاكِرة، في مكانٍ ما من اللاوَعي، لكن اللغةَ ليست موجودةً لتَرجَمةِ تلك الفكرة.
سَمِعتُ يومًا أن الإلهام هو الابن البار للفُضول و الصَديقُ الصَدوقُ للفُضوليين، و هذا صحيحٌ إلى حَدٍّ ما. فجَذوةُ الإجابةِ لا تشتَعِلُ إلا بشَرارةِ السؤالِ و وَمضةِ التَساؤل. لابُدَّ من استِحضارِ سؤالٍ مُلِحٍّ يقرَعُ أبوابَ المنطِق، و ذلك حتى يَحظى
العالمُ بالإجابةِ المُنتظرةِ و الفكرةِ التَنويريةِ الجديدة. و لكن من أينَ تولَدُ الأسئلة ؟ هل هي تُوَزِّعُ نفسها بالتَساوي ما بين المُبدِعين و العاديين؟ أم أنها تأتي بعد وَصلةٍ طويلةٍ من التأمُّلِ و التَفَكُّر؟ ليس الإلهامُ هو العُثورُ على أسئلةٍ فحَسب، و إنما هو يَكمُنُ في مُحاولاتٍ عديدةٍ لإيجادِ أجوبةٍ لتلك التَساؤلاتِ الكثيرةِ المُعلَّقةِ على شَمّاعةِ المنطِق.
تعَدَّدَت وجوهُ الإلهام، فقد يكونُ مصدَرُ الإلهامِ بلَدًا أو مدينةً أو زُقاق. قد يكونُ مَقهى أو مُجمَّعًا تِجاريًا أو حتى كوبَ قهوة. قد يكونُ كتابًا أو سَطرًا من كتاب، أو مُحاورةً أو كَلِمةً أو تَنهيدة. المُهِمُّ هو ألا نحاولَ اقتِناصَ الإلهام أو اغتِصابه، فالإلهامُ يحبُّ السُلطة، لنَمنَحهُ السُلطة، سُلطةَ الحُضورِ بمُفرده.