بقلم: د . أنور ساطع أصفري
وُلد زهران ممداني في أوغندا ، وسط عائلة مسلمة ، وأسرة هندية الأصل ، وعُرف بدراساته النقدية التي كشفت آثار الاستعمار على العالم الثالث ، ودعوته الدائمة إلى الحرية وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة .
هاجر إلى أمريكا وهو في سن السابعة من عمره ، وعمره الآن 34 عاماً ، وبذلك يكون أصغر حاكمٍ لولاية نيويورك منذ أكثر من 100 عام .
تعرّف “ ممداني “ في عام 2021 على راما دواجي وهي رسّامة سورية ، أمريكية ، ومن عائلة مسلمة ، حصلت على ماجستير الفنون الجميلة ، من كلية الفنون في نيويورك ، وتمت خطبتهما في أكتوبر 2024 ، وتزوّجا في حفلٍ مدني في نيويورك في أوائل عام 2025 .
لم يكن معروفاً لدى سكّان نيويورك ، وكانت سيرته الذاتية عاديّة .
انتقد إسرائيل ، ونادى بفرض عقوباتٍ عليها ، وإيقاف دعمها، وسحب كل أشكال الاستثمارات منها ، كما طالب باعتقال نتنياهو .
أثناء حملته الانتخابية زار المساجد ، وتحدّث عن ارتفاع أسعار الوجبات الغذائية وأجور المنازل في نيويورك .
آخذين بعين الاعتبار بأن “ زهران ممداني “ هو ثمرة تربية فكرية وإنسانية عميقة من خلال والده محمود ممداني ، أحد أبرز الباحثين في مجال الاستعمار ، والسياسة الأفريقية والعلاقات الدولية .
كان فوزه بولاية نيويورك بمثابة ضربة قوية لترامب “ الرئيس الأمريكي “ .
وعلى هامش فوز “ ممداني “ ودعماً له ، فازت الديمقراطية أبيجيل سبان برغر بسهولة بمنصب حاكم ولاية فرجينيا . وفي نيوجرسي فازت الديمقراطية سيكي شيريل بمنصب حاكم الولاية . كما فازت الديمقراطية عضوة مجلس الشيوخ غزالة هاشمي بمنصب نائبة حاكم فرجينيا .
لكن يبقى “ ممداني “ الصوت الهادر النابع من الجيل الجديد ، وديمقراطياً بعنف وتقدميّاً .
العنوان الأساسي للحملات الإنتخابية كان المخاوف الاقتصادية النابعة من تصرفات “ ترامب “ .
ومعظم الناخبين هم “ غاضبون “ أو “ غير راضين “ عن الأوضاع الاقتصادية والعامة في البلاد ، حيث أن ضرائب الممتلكات تُمثّل مشكلة كبيرة ، وتكلفة السكن هي الأبرز ، إضافة إلى التأثّر الكبير بإغلاق الإنفاق الحكومي .
نتائج الإستطلاع تُشير إلى أن الأغلبية يشعرون بأنهم غير قادرين على التقدم في ظلّ الوضع الاقتصادي الحالي ، ويُشعرون بأنهم ثابتون على وضعهم ولا يستطيعون التطور .
ما حدث في نيويورك ليس حدثاً عابراً في أجندة السياسة الأمريكية ، بل كان بكل معنى الكلمة زلزالاً سياسياً واضح المعالم ، حيث أن فوز “ ممداني “ يُمثّل التحدي الصريح للهيمنة ونفوذ الإمبراطورية الأمريكية .
المسألة بحد ذاتها ليست فوز “ ممداني “ بولاية نيويورك ، بل هي التحوّل الأكيد في الوعي لدى جيل الشباب الأمريكي ، الذي جاء وعبّر عن نفسه على هامش اندلاع طوفان الأقصى ، الذي اهتز الشارع الدولي حوله .
إنّ فوز “ ممداني “ كان الصوت العاكس لمجريات الأمور في فلسطين المحتلة ، وفوزه يعني إنتصاراً لصوت الحق وحقوق الإنسان في الشارع الأمريكي .
إنّ فوز “ ممداني “ هو تحدٍ صارخ في وجه اللوبي الصهيوني ، ويضع المبادئ الإنسانية في المقام الأول ، وبنفس الوقت هو فضح للازدواجية في المواقف الأمريكية التي تطالب بإيقاف الحرب في أوكرانيا ، وبنفس الوقت تطالب بتدمير غزّة وقتل أبنائها وتشريد الفلسطينيين من أرضهم ، وتدافع عن حقوق الإنسان في مكانٍ ما ، وتُبرر الجريمة وقتل الإنسان في غزّة وفي فلسطين بمجملها .
إن فوز “ ممداني “ في حقيقته يُمثّل ناقوس الخطر لدى اللوبي الصهيوني في العالم ، وفي نيويورك بشكلٍ خاص ، حيث يُعتبر أكبر لوبي صهيوني في العالم .
من الواضح أن اليهود وخاصّة في أمريكا لم يعودوا أسرى لخطاب اللوبي الصهيوني ، ولا لخطاب الكيان المحتل “ من البحر إلى النهر “ ، بقدر اهتمامهم الآن بالمواقف الإنسانية والمعيشية ، ولقد قال أحد اليهود حول فوز زهران ممداني ، قائلاً :
“ إنّه شاب نشيط يقف إلى جانب المهاجرين الفقراء والطبقة العاملة التي تُحرّك المجتمع ، و اليهود يقفون إلى جانبه ويقدمون له الدعم والنصح .
يرى المراقبون أن فوز “ ممداني “ قد يؤدّي إلى ولادة تيار يساري أمريكي جديد ، يُعيد التوازن السليم داخل الحزب الديمقراطي ، وهنا تكمن أهمية فوزه ، حيث أنّه لا يُمثّل تحدياً لنظامٍ سياسي فقط ، بل يُمثّل تحدياً أخلاقياً واقتصادياً في بلدٍ جعل الإنسان مُجرد قطعةٍ صغيرةٍ في آلةٍ ضخمة لخدمة رأس المال .
زهران ممداني لو كانت ولادته في أمريكا لكان الطريق أمامه ممهداً للوصول إلى البيت الأبيض ، لكن ولادته كانت في أوغندا ، لذلك فإن الطريق إلى البيت الأبيض بالنسبة لزهران ممداني هو طريقاً مُغلقاً .
ومع ذلك فإن نيويورك هي بوصلة تعكس مختلف التوازنات في الإمبراطورية الأمريكية ، وفوز ممداني يعكس فعلاً تحوّلاً جذرياً ، ورفضاً قطعياً وضمنيّاً لاحتكار جماعات بعينها لصوت نيويورك ومكانتها في صناعة القرار الأمريكي.
وفي حقيقة الأمر الواقعي الآن إن الأجيال الجديدة في أمريكا إن كانت من أُصول آسيوية وعربية أو لاتينية وأفريقية ، بدأت تُعيد تشكيل الهوية الأمريكية بعيداً عن توصيات البيت الأبيض وتوجّهاته .
لذلك نقول أن فوز “ ممداني “ هو ليس مجرد إنجاز شخصي ، بل هو زلزال سياسي ، وإعلان عن بداية تشكيل جيلٍ جديد من النخبة السياسية التي ترى العالم من خلال رؤية أكثر شمولية وإنسانية ، وليس من منظور المصلحة الأمريكية ومكاسبها .
من الواضح أنّه بعد طوفان الأقصى حدث شرخ مؤكّد بين يهود أمريكا خاصّة بين جيل الشباب ، الذي يرفض الصهيونية ويقف ضدها باعتبارها مشروعاً عنصرياً ، وبين الجيل القديم الذي يقف إلى جانب إسرائيل والصهيونية ، فمعظم الشباب اليهود في الجامعات الأمريكية يرفضون ربط صوتهم بسياسة إسرائيل ، ويُطالبون بفصل الدين عن فكر تل أبيب .
وهذا التحول بمفرده يُشكّل دلالات عميقة الجذور في ميزان القوى داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي ، وهذا يعني بصريح العبارة أن الرئيس الأمريكي القادم لن يكون مضطّراً للتفاخر بنسبة عطائه واندماجه مع السياسة الإسرائيلية ، لإعطاء صورة معتدلة لأمريكا على المستوى الدولي .
لذلك نجد أن فوز “ ممداني “ أحدث شرخاً عميقاً في جدار الهيمنة الأمريكية المعمول بها ، لخلق عصرٍ سياسي جديد تُشارك فيه هويات شابة كانت مُهمّشة في صناعة القرار الأمريكي .
طبعاً هكذا تحوّل يحتاج إلى جهدٍ وزمن ، ويكفي الآن أن الوعي الجمعي للناخب الأمريكي قد تغيّر ، وبدأ يُميّز الانحياز الأعمى الجارف تجاه إسرائيل ، وأن أمريكا الجديدة ليست هي التي تُدار من خلال لوبيات قديمة ، بل من خلال الميادين السياسية ، والجامعات والشوارع المفتوحة التي تُعبّر عن رأيها ، وتصوّت للتنوّع والعدالة وللإنسان بشكلٍ عام .
وبالمصّلة يتوضّح لدينا أن الفوز الذي حققه زهران ممداني يحمل بصمات ودلالات سياسية قد تكون خطيرة بمثابة زلزال سياسي ، ومؤشرات مُبكّرة على قدرة الحزب الديمقراطي الأمريكي على تجديد نفسه من خلال ولادة جيل قادر على كسب ثقة الشارع السياسي الأمريكي .
فوز “ ممداني “ يُترجم على أنّه تحوّل عميق في وجدان أمريكا من خلال جيلٍ يبحث عن إنسانية الإنسان ، وإنسانية السياسة ، وجيلٍ واعٍ يُعيد رسم هويته ودولته من جديد .
هكذا تمضي الأيام والتاريخ يُراقب ، ويُخرج من رحمِ الظلم صوتاً يُعبّر عن الحقّ والكرامةِ الإنسانية ، ومن قلب امبراطوريات الجريمة ، صوتاً للضمير الإنساني .
وما كُنّا نعتقد أنّه مستحيلاً ، أصبح ممكناً .
إنّ ما حدث في غزّة أيقظ الضمير الجماهيري الدولي ، والوجدان الشعبي العالمي ، لكنّه لم يُوقظ ضمير الأنظمة العربية .
وما جرى في نيويورك يُؤكّد بأن الكلمة موقف ، ولا لن تموت، وأنّ العدل لا بُدّ أنّه قائم مهما طالت الأيام .
جرس التحوّل قد انطلق ، وما حدث في نيويورك هو بمثابة نبوءة لما سيحدث في الولايات المتحدة في الغد .













