الرسالة- مونتريال: بهيج وردة
من الصعب أن يكون الاسم مألوفاً لدى الكثيرين، لكن لو أردنا التخصيص والحديث عن مصر، فأيضاً ستجد صعوبة في معرفة واحد من أبرز مبدعي العالم في مجال الموسيقى الالكترونية، لكن المهمة ستصبح أقل صعوبة، إن أشرت إلى أنه مؤلف موسيقى عروض «الصوت والضوء» التي يرجع تاريخ بدايتها في منطقة الهرم إلى العام 1960، وافتتحت في عهد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.
لربما يبدو التاريخ الأول غارقاً في قرن سابق بالنسبة للبعض، إلا أن المناسبة الثانية التي دعي فيها إلى مصر كانت بمناسبة افتتاح المبنى الجديد لمكتبة الاسكندرية في العام 2012، وكتب حينها قطعة للوتريات قدمتها فرقة وتريات الاسكندرية.
في 2 سبتمبر الماضي لم يعد بمقدور الفنان تلبية أي دعوة إضافية، إذ رحل عن 96 عاماً في منزله بمدينة كنت بولاية اوهايو الأمريكية، حيث يعد واحداً من أبرز رواد الموسيقى المعاصرة في العالم، إلا أن بداية الرحلة كانت من حي السكاكيني بالقاهرة.
من الزراعة إلى الموسيقى
تخرج الضبع عام 1945 من جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً) حاملاً بكالوريوس في الهندسة الزراعية، إلا أنه كان عاشقاً للموسيقى، فوظف هذا العشق في التعرف إلى ثقافات موسيقية جديدة في مصر مستفيداً من عمله كموظف في مجال الزراعة وتنقله بين المحافظات، حيث أتاح له التوغل في المحافظات المصرية للضبع اكتشاف أن الأمر أكبر بكثير من الموسيقى المنتشرة في القاهرة وقتذاك، وأن الآلات الموسيقية أكثر من مجرد بيانو. وفي الصعيد تعرّف لأول مرة على فن “الزار” الذي سيغيّر نظرته للموسيقى كلها فيما بعد.
وبعد مشاركته في موسيقى أفلام المخرج حسين حلمي، وفوزه بالجائزة الأولى للتأليف الموسيقي بدار الأوبرا المصريّة، وتدشينه للموسيقى الإلكترونيّة بمقطوعة “تعابير الزار“، انتقل حليم إلى الولايات المتحدّة لدراسة الموسيقى. وتعرّف في الخمسينيّات على رائد الموسيقى التجريبيّة جون كايج، وعلى إدوارد فاريز وهنري كوويل واندمج وسط الفنانين الطليعيين، كما عمل مساعدًا لإيغور سترافينسكي.
افريقيا والتجريب
حب حليم للثقافات والعادات وفضوله للتعرف على أصوات جديدة مختلفة فتح له المجال للسفر إلى أفريقيا في الستينيّات والسبعينيّات لدراسة ثقافات الشعوب وانعكاسها على موسيقاتهم. ثم عاد مرة أخرى إلى أميركا لينشغل أكثر بالدراسة والتدريس في الكثير من الجامعات من أهمها Kent State University. قام حليم بتعليم الكثيرين عن طريق الأصوات واللغات والرقص واستدعائه الثقافات الأفريقيّة المختلفة لعشرين دولة قام بزيارتها. ويتكلم حليم عن تجربته في أفريقيا قائلًا إن من العادي أن نجد على بعد كل عشرة كيلومترات مجموعة أو قبيلة ذات ثقافات مختلفة عن جارتها، مما يجعل الأفارقة أكثر انفتاحًا لاستقبال الموسيقى والأصوات الغريبة عن أذنهم بسهولة وترحيب. ومن هنا يمكننا الاستنتاج أن الموسيقى في المدينة لا تتمتع بهذه التعدديّة وعدم التجانس التي يجدها حليم في القرى الأفريقيّة، حيث أن أهل المدينة معرّضون لنفس الأصوات الرتيبة والمتجانسة مما يجعل قدرتهم على استيعاب أصوات جديدة أو موسيقى مختلفة مثل الموسيقى الإلكترونيّة والتجريبيّة أكثر صعوبة من أهل القرى الأفريقيّة.
موسيقى ليست للبيع
أعمال حليم الضبع ليست متوفرة مثل أعمال سائر الموسيقيين، فلم يتم تجميعها وطباعتها على أسطوانات إلا في التسعينيّات، وهى متاحة الآن بقلة على الإنترنت ومعروضة للبيع . ولكن من الواضح أن اهتمام حليم بالدراسات والتجريب قد صرفه عن الترويج لموسيقاه والاهتمام بالجانب التجاري منها، لتحتفظ موسيقاه بخصوصيتها أكثر في المسارح وأماكن العروض المختلفة.
وفي عام ٢٠٠٢، عندما قام حليم بتلبية دعوة مكتبة الإسكندريّة لحضور افتتاحها مصطحبًا معه فنانين أمريكيين لعزف موسيقاه، وقام بالمشاركة في ندوة موسيقية بإدارة المؤلف الموسيقي راجح داوود ومن أشهر كلماته فيها: “أعتبر البيانو كائنًا حيًا، لا أعتبر نفسي مسيطرًا على البيانو، يجري حديث بيني وبينه قبل أن أبدأ التأليف، تتقابل الأصوات في وجداني، أستجيب لها وتخرج منتظمة متّسقة. كل آلة موسيقيّة لها مشاعرها، كل آلة لها تعبير شخصي” … “بدأت حياتي مهندسًا زراعيًا ثم أصبحت مهندسًا موسيقيًا“.
توثيق التجربة
كتب عالمية عديدة توثق تجربة الضبع الموسيقية، أبرزها كتاب The Musical World of Halim El-Dabh الذي يعد أقرب لسيرة ذاتية عن حليم قامت بكتابته الباحثة بجامعة كينت الأمريكية دينيس سيرشيرست وهي إحدى تلميذات الضبع، وينقسم الكتاب إلى قسمين، الأول عن حياته في مصر وتجربته الموسيقية فيها، والثاني يركز على حياته المهنية منذ وصوله إلى الولايات المتحدة في عام 1950 حتى تقاعده من جامعة ولاية كنت عام 1991 ثم تجاربه الموسيقية بعد ذلك.
يعود لحليم الضبع ريادته في موسيقى الكونكريت، إلا أن مراجع كثيرة لا تعترف بريادية مقطوعته “غناء الزار” التي سجلها في القاهرة عام 1944، إلا أنه ألف العشرات من السيمفونيات والمقطوعات الموسيقية العالمية ومن أشهر مؤلفاته كانت تلك التي تعاون فيها مع مارثا جراهام رائدة الرقص الحديث الأمريكية الملقبة ببيكاسو الرقص في العالم، كما درس في عدد من أبرز الجامعات الأمريكية.