بقلم: د. حسين عبد البصير
مصر صاحبة الحضارة الأعظم
مصر أم الدنيا.
مصر أصل الحضارة.
مصر أرض التاريخ.
مصر سحر العالم قديمًا وحديثًا.
مصر هي أول كلمة في كتاب التاريخ وأهم موقع في كتاب الجغرافيا.
مصر هي صانعة الحضارة ومبدعة التاريخ.
مصر هي أعظم دولة ثقافيًا في العالم قديمًا وحديثًا.
لقد أنعم الله سبحانه وتعالي على مصر، قلب العالم القديم، بالموقع الجغرافي المتميز الذي يتوسط قارات العالم القديم. وساهم ذلك الموقع الجغرافي المتميز في تواصل مصر مع جيرانها وسهولة الاتصال والتأثير والتأثر مع حضارات العالم القديم. ومنحها نهر النيل الخالد الذي سهل الاتصال بين الشمال والجنوب ووحّد الدلتا ووادي النيل حضاريًا ودينيًا وثقافيًا منذ أقدم العصور. وكذلك ساهم النهر الخالد في وحدة مصر وتماسكها عبر العصور وتوحيد جهود المصريين وتضامنهم لإقامة الجسور والحفاظ على مياه الفيضان مما جعل المصريين يعيشون كشعب واحد عبر آلاف السنين. ونشّط النهر العظيم التجارة الداخلية بين الشمال والجنوب ودعّم من تواصل المصريين وتماسكهم مع بعضهم البعض، ونشر حضارة المصريين القدماء في البلاد المجاورة لأرض مصر الخالدة، مما ساعد في إحداث موجات حضارية من التأثير والتأثر المتبادلة بين مصر وجيرانها وإلى ما وراء ذلك من نطاقات حضارية مغايرة.
ساهم عدم وجود حواجز أو موانع طبيعية في سهول ويسر التواصل والتعايش بين المصريين وبعضهم البعض وبين جيرانهم من الشعوب والحضارات المجاورة. وكذلك ساهمت الحدود الطبيعية الآمنة في تحقيق الأمن والاستقرار وحماية مصر من الأعداء وكانت بمثابة دفاعات طبيعية أو دروع واقية خلقها الله كي تدفع الأعداء عن أرض مصر المباركة وكي تقاوم المعتدين والطاعمين في خيرات مصر. ومنح الله بوفرة كبيرة أرض مصر الطيبة العديد من الثروات الطبيعة المتنوعة مثل الثروات المعدنية من صخور ومعادن ومن الثروات الطبيعية من النباتات والحيوانات مما ساعد المصري القديم على بناء حضارته الخالدة التي ما تزال تسحر العالم كله بجمالها وتخلب العقول وتبهر الأبصار بغموضها وسحرها. وكان الإنسان المصري القديم في صراعه مع الطبيعة والبيئة المحيطة به موفقًا للغاية في كبح جماحها وترويضها وإخضاعها لتحقيق أهدافه الحضارية منها.
ساحرة التاريخ وصانعة الحضارة
مصر هي مهد وأرض الحضارات؛ ففي مصر وُلد التاريخ والحضارة البشرية منذ آلاف السنين، وأينما تذهب تجد حتمًا جزءًا ما من تاريخ مصر، وكذلك من تاريخ العالم؛ لذا فلن نكون مخطئين إذا قلنا إن مصر والتاريخ توأمان متماثلان في كل شيء. فقد ظهرت الحضارة مبكرًا في وادي النيل ودلتاه المصريتين. ويجد المرء إنه من الصعب اختيار نقطة زمنية معينة يسرد منها قصة التاريخ المصري المثيرة والشيقة؛ فمصر موغلة في القدم قدم الزمن نفسه. وإذا تغاضينا عن البداية المبكرة لظهور الإنسان على الأرض المصرية، والذي كان ظهوره من بين أوائل الأجناس البشرية التي عرفتها القارة الأفريقية، فإن معرفة المصري القديم لحرفة الزراعة المنظمة والمستقرة على ضفاف نهر النيل العظيم في حوالي الألف السادس قبل الميلاد تعد، في رأيي؛ هي البداية الحقيقية لنشأة الحضارة المصرية التي سوف تستمر آلاف السنين.
هبة الله إلى البشرية
تقع مصر في الركن الشمالي الشرقي من القارة الأفريقية وتمتد في جنوب غرب آسيا من خلال شبه جزيرة سيناء، بوابة مصر الشرقية والمدخل الرئيس للغزاة إلى الأرض المصرية عبر التاريخ. وجعل هذا الموقع الجغرافي المتميز من مصر ملتقى للحضارات وبوتقة لتلاقي الثقافات، وجعل كذلك منها مطمعًا للغزاة والطامعين والمحتلين عبر تاريخها الحضاري الطويل.
شكَّل نهر النيل المصدر الأساس لنشأة الحضارة المصرية العريقة التي جعلت «أبو التاريخ» المؤرخ الإغريقي الأشهر «هيرودوت» يصف الحضارة المصرية بـ»هبة النيل»، وهو وصف لا يخلو من منطقية ووجاهة، غير أن وصفه ينقصه الكثير؛ لأنه لولا جهد الإنسان المصري وعطاؤه ما كانت الحضارة المصرية؛ ولأن نهر النيل قبل أن يصل إلى مصر يمر بدول أفريقية عديدة لم تنشأ،ولم تزدهر بها حضارات بلغت ما وصلت إليه الحضارة المصرية العظيمة من تقدم واستمرارية وازدهار. فمن غير المصريين، ما كانت تنشأ الحضارة المصرية الخالدة على ضفاف نهر النيل العظيم. وفي رأيي، إن مصر هي «هبة النيل والمصريين».
ساهم اعتدال المناخ في نشاط المصريين ونشأة وازدهار الحضارة في أرض مصر المباركة، أو «كيمت تا مري» أي «مصر الأرض المحبوبة» كما أحب المصري القديم أن يطلق على بلاده، مصر العظيمة. وساهم الجفاف في حماية والحفاظ على الآثار المصرية.
كان الإنسان المصري المدني والمتحضر بطبعه الشريك الأعظم والمساهم الأكبر في نشأة وتكوين حضارة مصر الخالدة في دلتا النيل والوادي الخصيب. فقد كان الإنسان المصري القديم من العبقرية بمكان أن استطاع بذكاء شديد وتفرد ليس له مثيل أن يوظف كل ما هيأه الله له في الطبيعة المحيطة به كي يبدع الحضارة المصرية العظيمة. ومما لا شك فيه أنه لولا عبقرية الأداء وروعة الإبداع من قِبل الإنسان المصري القديم ما كانت الحضارة المصرية القديمة. يمتاز الإنسان المصري – البناء العظيم صاحب ومشيد تلك الحضارة الفريدة –والبناء والتحضر والميل إلى السلم وبعشق العمل وإتقانه والدأب والصبر والصمت والهدوء والحلم وتحمل الشدائد والإيمان والتسامح.
الاسم والصفة
تعددت الأسماء والصفات التي أُطلقت على مصر، خصوصًا في مصر القديمة. وجاء اسم مصر في اللغة الإنجليزية «إيجيبت» من التعبير المصري القديم «حوت كا بتاح» – ويعنى «معبد قرين بتاح» – وهو اسم معبد مصري قديم خُصص للمعبود المصري القديم «بتاح»، إله مدينة «منف»، العاصمة المصرية القديمة. وينتمي المصريون إلى الجنسين السامي والحامي. ويطلق المصريون على مدينة القاهرة، العاصمة، «مصر»، مختزلين اسم بلدهم في عاصمتهم.
وتبدأ قصة العصور التاريخية المصرية في حوالي العام 3000 قبل الميلاد، حين أبدعت مصر القديمة الكتابة وأدخلت العالم إلى دنيا التدوين فتراكمت الخبرة الإنسانية والتراثية وحافظت على الذاكرة البشرية من الضياع. وكان ذلك العصر هو عصر المركزية والذي سوف يستمر طويلاً ويصبح سمة غالبة للإدارة المصرية عبر تاريخها الطويل خصوصًا في عصور القوة، وسوف يتحول كثيرًا إلى عقبة في مسيرة التنمية والقضاء على المركزية في صنع القرار.
نحو وحدة البلاد
عندما تم توحيد مصر العليا (الصعيد) ومصر السفلى (الدلتا) في مملكة واحدة وقيام الدولة المركزية على يد الملك «حور عحا»، أو «مينا»، بمعنى «المثبت»؛ أي المثبت لأركان الوحدة المصرية، استقرت في هذه الفترة المبكرة قيم ومعايير سوف تحكم الدولة المصرية وتصبغ الشخصية المصرية إلى الآن. وبعد هذا التاريخ المبكر الذي اشتمل على الأسرتين الأولى والثانية، دخلت مصر عصر الدولة القديمة والذي يعرف أيضًا بـ»عصر بناة الأهرام»، وفيه شيد المصريون الأهرام المصرية الشهيرة في الجيزة وسقارة ودهشور و «أبو رواش» و»أبو صير» وغيرها، ونحتوا تمثال «أبو الهول» الشهير فوق هضبة أهرام الجيزة ممثلاً الملك خفرع، باني الهرم الثاني بالجيزة. وتقف الآثار المصرية شامخة شاهدًا ودليلاً على عبقرية الأداء وروعة الإنجاز والإعجاز المعماري والهندسي والفلكي والإداري الخاص بالمصريين القدماء.
الأزمان العظيمة
مرت مصر القديمة بعصور ذهبية ثلاثة. وهي عصر الدولة القديمة أو عصر بناة الأهرام، وعصر الدولة الوسطى أو عصر الأدب المزدهر وعصر التطوير والتوسع في الزراعة والري والكثير من المشروعات وحماية ومد حدود البلاد، وعصر الدولة الحديثة أو عصر الإمبراطورية المصرية العظيمة في مصر وأسيا وأفريقيا.
بعد العصر الذهبي الأول، أو عصر الدول القديمة، مرت مصر بفترة اضمحلال، خرجت مصر بعدها قوية إلى عصر الدولة الوسطى حين وصل الأدب المصري القديم إلى القمة، ويعرف ذلك العصر بـ»عصر الأدب الكلاسيكي». وكان عصرًا مزدهرًا في الري والزراعة والعمارة، خصوصًا الاستمرارية في بناء الأهرامات المتنوعة. وبعد ذلك العصر الذهبي، مرت مصر بأصعب محنة عرفتها في تاريخها المصري القديم كله، ألا وهي احتلال أرض مصر من قبل قبائل أجنبية، تعرف بـاسم «الهكسوس»، (أو «حِكاو خَاسوت» وتعني «حكام الأراضي الوعرة» في اللغة المصرية القديمة)، تسللت بطريقة سلمية في غفلة من الزمن إلى مصر عبر حدودها الشرقية، وبسطت سيطرتها على دلتا مصر إلى مصر الوسطى حين ضعفت مصر القوية. وبعد كفاح طويل ومرير، استطاع الملك المصري الطيبي الجنوبي الشهير، الملك أحمس الأول، طرد الهكسوس من كل الأرض المصرية ودفعهم إلى الهروب إلى فلسطين. وبتحرير مصر من الهكسوس، نشأت الدولة الحديثة، العصر الذهبي الثالث والأخير في مصر القديمة، والذي يعد واحدًا من أروع فترات الازدهار في تاريخ الحضارة المصرية القديمة. وخلال ذلك العصر، اتبعت مصر سياسة خارجية جديدة جاءت كرد فعل على محنة احتلال الهكسوس لأرض مصر. وقامت تلك السياسة على التوسع في الفتوحات الخارجية وضم العديد من الإمارات والممالك إلى زمرة السيطرة المصرية، وذلك ما يعرف بـ»عصر الإمبراطورية» في مصر الفرعونية. ويعد الملك تحتمس الأول هو مهندس الإمبراطورية المصرية في آسيا وأفريقيا، ثم أكمل البناء من بعده حفيده الملك الأشهر وسيد الملوك المحاربين، الملك العظيم تحتمس الثالث، أو كما يعده البعض «نابليون العالم القديم»؛ لتقريب إنجازه العسكري إلى عقول القراء المحدثين، غير أن الملك تحتمس الثالث يعد أهم وأعظم من نابليون بونابرت،والذي هُزم ونُفي في نهاية حياته؛ وذلك لأن الملك تحتمس الثالث لم يُهزم أبدًا في أية معركة خلال معاركه العسكرية في حملاته السبع عشرة التي فتحها بها بلاد الشرق الأدنى القديم شمالاً وجنوبًا، وما تزال خططه الحربية تُدرس في أكاديميات العالم العسكرية الكبرى. ويعد الإسكندر الأكبر مماثلاً للملك تحتمس الثالث في الطموح والتوسع والنجاح في خلق إمبراطورية مترامية الأطراف امتدت إلى بلاد الهند. ومن بين أشهر الملوك المصريين القدماء أيضًا في ذلك العصر الملك أحمس الأول، والملكة حتشبسوت، والملكتحتمس الرابع،والملكأمنحتب الثالث،والملكأمنحتب الرابع، أو الملك أخناتون لاحقًا،والملكتوت عنخ آمون،والملكسيتي الأول،والملكرمسيس الثاني،والملكرمسيس الثالث،وغيرهم الكثير.
بعد ذلك العصر، دخلت مصر ما يُعرف بـ»عصر الانتقال الثالث» وفيه ساد التوتر والانقسام واللامركزية الأرض المصرية. وعانت مصر الشيء الكثير في عصر الانتقال الثالث، ثم حاولت معاودة الأمجاد في العصر المتأخر، وحكمت فيه مصر أسرات مصرية كان من بين أهمها عصر الأسرة السادسة والعشرين الصاوية، صاحبة النهضة المصرية القديمة، أو عصر الرينيسانس المصري القديم في العصر المتأخر، ومن أهم ملوكها الملك بسماتيك الأول، والملك أحمس الثاني أمازيس، مع بعض فترات من الاحتلال الفارسي إلى أن جاء الإسكندر الأكبر، وعلى يديه وعلى أيدي خلفائه الملوك البطالمة، تحولت مصر إلى مملكة إغريقية- بطلمية يحكمها الغرباء إلى قيام ثورة 23 يوليو 1952ميلادية. البقية في العدد القادم