بقلم: علي عبيد الهاملي
كاتب وإعلامي إماراتي
عندما هاتفني الزملاء في إذاعة «نور دبي»، يوم الجمعة 21 نوفمبر، يدعونني للحديث عن اليوم العالمي للتلفزيون، عبر برنامج «البث المباشر» رأيت شريطا طويلا من الذكريات يمر أمامي، وحضرت صورٌ كثيرة، كأنني أرى أول يوم خطت فيه قدماي داخل مبنى «تلفزيون الإمارات العربية المتحدة من دبي – القنال 2» ذات مساء من مساءات صيف عام 1974م، بصفتي مذيعاً هذه المرة، بعد أن كنت أحل عليه ضيفا، وكانت الكتابة وحدها تستحوذ على كل اهتماماتي. كنت وقتها طالباً على مقاعد الدراسة الثانوية، استهوتني الكتابة فانطلقت أمارس هوايتي هذه، ولم يدر بخلدي أنني سأتحول عنها إلى التلفزيون لأبقى فيه عمري كله.
كان الحديث الإذاعي عذباً، آسراً، وذا شجنٍ رغم قصره. لم أتمالك نفسي من استعادة تلك اللحظة التي جلست فيها لأول مرة أمام كاميرا التلفزيون، التي كانت تمتحن جرأتي على الجلوس أمامها أكثر مما كانت تمتحن أدائي. مرّ أكثر من خمسين عاماً على تلك اللحظة، ومع ذلك ما زلت أشعر بأن للكاميرا رهبتها، وأن العلاقة بيني وبين التلفزيون ليست علاقة مذيعٍ بوسيلة، ولاعلاقة موظفٍ بوظيفة، بل علاقة عمرٍ كامل، تشاركت فيه مع زملائي التحديات والأحلام والنجاحات، والخيبات أحياناً، وتقاسمنا فيه تفاصيل كانت أكبر من مجرد لحظاتٍ وصورٍ عابرة.
حين اعتمدت الأمم المتحدة عام 1996 يوم 21 نوفمبر من كل عامٍ يوماً عالمياً للتلفزيون، لم تفعل ذلك لأنها أرادت الاحتفاء بشاشة، بل لأنها أرادت الاعتراف بوسيلةٍ صنعت الوعي بطريقةٍ مختلفة. يومها، كان التلفزيون هو الصوت المسموع، والصورة الصادقة، والنافذة التي نطل منها على قضايا السلام والأمن والتنمية. كان التلفزيون أقرب إلى ضميرٍ جماعيٍّ يذكّرنا بأن العالم أكبر من حدودنا، وأن الحياة جاريةٌ خارج غرفنا، مهما طال اعتكافنا في تلك الغرف.
ولأنني عشت هذه التجربة من داخل غرف التلفزيون، لا من مقاعد المشاهدين، فإنني أعرف جيداً كم تعب العاملون في هذا الجهاز السحري كي يمنحوا الناس حقيقةً ناصعةً في عالمٍ كثير الغبار. عرفت صوت المخرج وهو يصرخ متوتراً، وعشت احتشاد المذيع حين يأتي خبرٌ عاجل، وأحسست بخفقان القلوب حين تتحول صالة التحرير إلى سباقٍ مع الزمن. هذه التفاصيل، التي قد تبدو للبعض صغيرةً، هي ما تجعل التلفزيون أكبر من مجرد جهاز. إنه حياةٌ كاملةٌ تتحرك خلف الكواليس كي تصل الحقيقة إلى الناس بأفضل صورةٍ ممكنة.
واليوم، ونحن نعيش عصر التواصل الاجتماعي والذكاء الاصطناعي، لا بدّ من الاعتراف بأن العالم تغيّر. لم يعد المشاهد ينتظر موعد نشرة الأخبار كما كان يفعل قبل عقود، ولم تعد غرف الأخبار هي المصدر الأول للخبر. الهاتف المحمول أصبح أسرع، والمنصات أصبحت أكثر صخباً، والأخبار تنصبّ فوق رؤوسنا كما تتدفق الأمطار في مواسم العواصف. ومع ذلك، فإنني حين أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام، أدرك أن السرعة ليست بديلاً عن الحقيقة، وأن السبق ليس بديلاً عن العمق، وأن وسائل التواصل الاجتماعي لم تستطع أن تسلُب التلفزيون أهمّ ما يملكه؛ الشفافية والصدق والأمانة.
ولأنني من جيلٍ رأى التلفزيون في أولى خطوات تأسيسه على أرض الإمارات، وشهد صعوده وتحوّلاته، فإنني أؤمن أن هذه الوسيلة لا تموت. هي تتغير، نعم… تتجدد، نعم… لكنها لا تختفي. التلفزيون الذي عرفته قبل أكثر من خمسة عقود لم يعد هو التلفزيون الذي نشاهده اليوم، ولن يكون هو التلفزيون الذي سيعرفه أحفادنا غداً، لكنه يبقى حاضراً لأنه قادرٌ على أن يمنح الصورة ألقها، وأن يعطي الخبر وزنه، وأن يصنع لغةً مشتركةً يتواصل من خلالها الناس مهما اختلفت ثقافاتهم.
الاحتفال باليوم العالمي للتلفزيون عندي ليس احتفالاً بوسيلةٍ إعلاميةٍ فقط، بل هو احتفالٌ بذكريات مهنةٍ لا تُعطي أسرارها إلا لمن أحبّها بإخلاص، وعاش تفاصيلها بشغف.
ويبقى السؤال الذي يلحّ عليّ ويثير قلقي، كلما نظرت إلى الشاشات الصغيرة التي نحملها في جيوبنا: هل خسر التلفزيون معركته؟
أتمنى أن يكون الجواب، بحكم محبتي وشغفي، هو: لا لم يخسر التلفزيون معركته.













