بقلم: علي عبيد
«أخي علي، لكم أتمنى فرصة الاحتفاء بك لحظة نزولك القاهرة. إلى لقاء قريب». بهذه العبارة ختم الأديب الراحل جمال الغيطاني، رسالته التي كتبها لي بخط يده الصغير الأنيق، وأرسلها من القاهرة بواسطة الفاكس، يوم أن كان الفاكس وسيلة التراسل الأحدث والأسرع. كان تاريخ الرسالة هو 2003/6/17، وكنت قبلها بيومين قد كتبت في «استراحة البيان» التي كانت تتصدر الصفحة الأخيرة من صحيفة «البيان» وقتها، مقالا بعنوان «ليس دفاعا عن الغيطاني» تعليقا على القضية التي أثارها موقع «الإمبراطور» الإلكتروني الذي يديره الشاعر العراقي أسعد الجبوري في الدانمارك، واتهم فيها صديقنا الغيطاني بكتابة رواية «زبيبة والملك» المنسوبة إلى الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، رغم أن الرواية لم تحمل اسم كاتب محدد، مكتفية بالتنويه على غلافها بأنها «رواية لكاتبها». وقد تحولت الرواية إبان حكم البعث للعراق إلى عرض مسرحي، وفيلم سينمائي، وأدرجت ضمن مناهج الأدب المدرسي والجامعي، متفوقة بذلك على روائع الأدب العالمي، رغم رداءة فكرتها وأسلوب كتابتها.
وقتها قلت إن من يقرأ الرواية يستطيع أن يدرك ببساطة أن كاتبها لا يمكن أن يكون هو الأديب جمال الغيطاني لأسباب منطقية وموضوعية عدة؛ أولها أن من يعرف الغيطاني يعلم أن أخلاقه لا تسمح له بأن يكتب رواية ويضع عليها اسم مؤلف آخر، حتى لو كان هذا الآخر رئيسا، فإحساس الكاتب بأنه الحاكم المطلق والملك المتوج على ما كتب إحساس لا يقل عن شعور الجالس على كرسي الحكم، وأعتقد جازما أن الصديق الغيطاني لا يمكن أن يتنازل عن نتاج من نتاجات فكره وعقله لكائن من كان، حتى لو كان هذا الكائن حاكما. أما أولئك الذين يمكن أن يتبادر لأذهانهم أن لبريق المال تأثيرا على الأديب الغيطاني فهم لا يعرفونه حتما، ولست مضطرا لتوضيح ذلك لمن لا يعرفه، لأن معادن الناس لا تُعرَف إلا بالتجربة والمواقف النبيلة، وقد شهدت للصديق الغيطاني موقفا نبيلا لست في حل من ذكره، لكنه يضع الرجل في مكانة لا تسمح له بتقديم تنازل من هذا النوع، أو أي نوع، من أجل حفنة من المال مآلها إلى الزوال. ثم يدفع عن الغيطاني التهمة أيضا فكرة الرواية الأقرب إلى السذاجة، وبناؤها غير المحكم، اللذان يبعدان بها عن موهبة الغيطاني المعروفة في البناء القصصي، وأسلوبه المميز عبر رواياته العديدة التي تُرجِم الكثير منها إلى لغات عدة، منحته شهرة عالمية تجاوزت حدود العالم العربي، مما يجعله في غنى عن كتابة رواية رديئة مثل «زبيبة والملك».
وقتها كتب لي الصديق الغيطاني، رسالة ما زلت أحتفظ بها حتى اليوم، يقول فيها: «قرأت بمشاعر عديدة أبرزها التأثر والامتنان، ما كتبت في «البيان» حول ماأثير من افتراءات تتعلق بي مؤخرا، وما تفضلت به عن شخصي. لا أجد ما أقوله سوى أنني شديد الامتنان لك. صحيح أننا لم نمض أوقاتا طويلة معا، لكن تواصلنا عبر الكتابة والمعرفة الشخصية القصيرة العميقة التي أتيحت لي تجعلني أقدر فيك ذلك الإنسان الأصيل الطيب الحساس المشاعر والقلم». ثم ختم رسالته بالعبارة التي بدأت بها مقالي هذا على أمل اللقاء في القاهرة. وقد تعمقت بعدها علاقتي بالأديب جمال الغيطاني، لأكتشف فيه إنسانا جميلا، والتقينا مرات عديدة على أرض الإمارات في مناسبات عدة، كانت آخرها الندوة التخصصية التي أقامتها «ندوة الثقافة والعلوم» في شهر نوفمبر عام 2012 عن مستقبل الرواية العربية، وقدمته خلالها، فيما أظنها آخر زيارة قام بها الأديب الغيطاني لدولة الإمارات، لكننا لم نلتق أبدا في القاهرة كما تمنى الغيطاني في رسالته وتمنيت أيضا، رغم نزولي المتكرر لها، إما لكون الغيطاني خارج القاهرة عندما أزورها، أو لقصر مدة بعض الزيارات وازدحامها بالعمل والارتباطات.
يوم الثامن عشر من أكتوبر الجاري نعت لنا القاهرة الأديب الجميل جمال الغيطاني، إثر إصابته بوعكة صحية أدخلته غيبوبة لأكثر من ثلاثة أشهر. وبرحيله فقد الأدب العربي قامة من قاماته السامقة الرفيعة، وترجل صاحب مشروع أدبي روائي شكّل حلقة وصل بين جيلين؛ جيل صنع لنا الزمن الجميل الذي نتحدث عنه بإعجاب كبير ونتمنى أن نقاربه، وجيل لعب دور الحلقة التي وصلتنا بذلك الزمن الجميل، وكان الغيطاني واحدا من نجوم حلقة الوصل تلك، متأثرا بأستاذه الكاتب والروائي الكبير نجيب محفوظ، الذي لعبت علاقة الغيطاني به واقترابه منه دورا كبيرا في بناء شخصيته، وانعكست هذه العلاقة على أعماله الروائية التي تُعدّ «الزيني بركات» أهمها وأكثرها شهرة، خاصة وهو يتكئ على التاريخ ليقارب الماضي هربا من الواقع المعاش.
يقول الغيطاني في تجلياته: «أمنيتي المستحيلة أن أمنح فرصة أخرى للعيش.. أن أولد من جديد لكن في ظروف مغايرة.. أجئ مزودا بتلك المعارف التي اكتسبتها من وجودي الأول الموشك على النفاد.. أولد وأنا أعلم أن تلك النار تلسع.. وهذا الماء يغرق فيه من لا يتقن فن العوم.. وتلك النظرة تعني الود.. وتلك التحذير.. وتلك تنبئ عن ضغينة. كم من أوقات أنفقتها لأدرك البديهيات.. وما زلت أتهجى بعض مفردات الأبجدية».
معذرة أيها الصديق الجميل لأنني لم أحقق لك فرصة الاحتفاء بي في القاهرة كما تمنيت في رسالتك الرقيقة تلك، فكم من الأمنيات أهدرنا قبل أن يفاجئنا الرحيل.. رغم أنه الحدث الوحيد الذي يجب أن لايفاجئنا أبدا.