بقلم: سوسن شمعون
لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره و نزل إلى سوق العمل ليساعد أهله، كان يحلم أن يُكمل دراسته و يصبح ذو شأن بين الناس لكن المعيشة الصعبة حالت دون ذلك ، جلس في أول يوم عملٍ له في بهو محل الحدادة ينظر إلى أطفالٍ في مثل سنه يعملون في ذلك الشارع، رآه صاحب المحل وصرخ بصوتٍ جهوري مخيف طالباً منه أن ينظف المكان ، فقام الولد متثاقلاً و باشر عمله وهو يتذكر أيام دراسته وضحكات رفاقه و ضجيج الطفولة آنذاك، و بعد قليل جمع صاحب المحل الفتية الثلاثة و الذي كان بينهم هذا الصبي ونهرهم من غير مبرر ثم أمرهم أن يساعدوه في طرق الحديد الملتهب ليصيغه بالشكل الذي يريد. كان الأولاد معتادون على نبرة معلمهم القاسية و صعوبة العمل المنهِك في ذلك المكان أما هذا الصبي الجديد فلم يتأقلم على الوضع بسهولة ولم تقوَ يداه الصغيرتان على ضرب تلك الكتلة الحديدية فوقعت منه المطرقة و ما كان من صاحب العمل إلا أن لطم الصبي على وجهه مردياً إياه أرضاً فقام هارباً و هو يجهش ببكاءٍ مرير ، لم يشأ الذهاب إلى بيته خوفاً من بطش أبيه و دخل حديقةً تقع خلف شارع العمل ، و جلس متألماً من أثر الصفعة و الكلمات النابية التي نُعِت بها دون سبب ، شاهده حينها رجلٌ مسن ذو مظهرٍ رتيب فتقدم إليه ببطء و سأله بهدوء عن قصته ، إرتاب الصبي بدايةً لكنه شعر برغبةٍ ملحّة في الكلام لغريبٍ عن وجعه و سرَد تفاصيل حكايته لذلك المسن ، و بعد أن انتهى من كلامه رد عليه الشيخ بلهجة المتمرس في الحياة قائلاً : يا ولدي أنا عابر سبيل هنا كما أنت و لي حكايتي مثلما أنت لك حكايتك و مثل جميع الناس ، إياك أن تظن أن الجميع بخير إنما يحاولون أن يكونوا بخير فلكلٍ منا جرحه الذي ينزف داخله ، لك أن تعرف يا بني أن هذا الذي صفعك قد بدأ مثلك بريئاً طاهراً نقياً مكسور الخاطر والقلب حتى أتى من غيّر طباعه و حوله لوحشٍ بشري و جعله يظن أن هذا التحول هو المطلوب في الحياة وهو أمرٌ عادي ، لا تسمح لهم أن يغيروا قلبك لكي تشبههم ولا تجعل من شظف العيش حجةً لتنسلخ عن إنسانيتك ، و إن لم يكن بإمكانك رسم حلمٍ و السعي لتحقيقه فأنت غير جديرٍ بالحياة ولا بمعرفتها، اذهب فهؤلاء الكبار بدئوا مثلك وانتهوا مثل ذلك المستغِل ، سترى كثيراً منهم لكن تذكر شيئاً واحداً فقط ، اصبر و تحمل لأجل هدفك و كابر على جرحك فلن يشعر أحد بما تشعر أنت ولا تدع مهما حدث أن يقتل أحدهم حلمك أو يقتل الإنسان الذي في داخلك . و انصرف الشيخ مبتعداً تاركاً للصبي فهم الكلام الكبير والحكمة البالغة ليحيى بها لا لكي يعيش الألم معتقداً أنه هو الحياة.
و أنتم أيها السادة … ما هي حياتكم الحقيقية و هل تركتم وحوش الواقع تقتل أحلامكم أم قاومتم و عرفتم كيف تحيوا حياتكم ﻻ أن تعيشوا خيباتكم معتقدين أنها هي الحياة ؟.