بقلم: سوسن شمعون
كانت جالسةً أمام نافذتها المطلة على الشارع وكانت السماء تمطر و تروي الأرض المتعبة كما روح تلك المرأة الجالسة تنتظر غيث الله عليها ليروي فؤادها كما روى الأرض ، لم تنتبه السيدة لكثرة شرودها لإبريق الشاي الذي تبخر ماؤه لشدة غليانه وهي تتأمل المطر يرتطم على زجاج نافذتها و شبَّهت تلك الغيمة الماطرة بحالها، هذه الغيمة التي تقطع المسافات و ترميها الرياح يمنةً و يسارا و هي تحمل في أحشاءها قطرات الحياة ثم في الوقت المناسب تمنح هذه القطرات لمكانٍ غريب و بعيد لتتركها تتناثر في الأرجاء كي يفرح أناسٌ غرباء بها و لتحزن الغيمة الأم لفراق من صانتهم زمناً داخلها، لقطرات سكنت قلبها طوال الوقت و ألِفت دفئها ، تلك الغيمة تلك الأم التي صارعتها رياح العمر وهي واقفة كالسنديانة تصمد أمام العواصف و الأنواء ثم يجيء حطّابٌ ليقتلع منها أغصانها عنوةً و يبعدهم عنها ، هم أولادها الذين كبروا و ابتعدوا ليتناثروا في البلدان كحبات المطر ، انتابتها مشاعر مختلطة فتارةً هي تشكو وحدتها و غربة أبنائها عنها و تارةً تدعو لهم أن يكونوا بخير فقط و إن لم يأتوا ، هي في أرض الوطن تعيش ذكرياتها بكل التفاصيل المملة و هم يشقون طريقهم في معترك الحياة ، تشتهي تجمعهم حولها و تأمل في الوقت نفسه أن ينجحوا في غربتهم ولا ترى بُداً من محادثة أطيافهم القابعة معها في ذلك المنزل العتيق ، هي تريدهم قربها في أرذل العمر لكنها لا ترغب أن تكون أنانيةً في أمنياتها، تخاف عليهم من أوجاع الغربة و تُكابر على جراحها و تترقب بصمت ساعات اليوم الطويل عسى أن يتذكرها أحدهم باتصال أو رسالة تروي ظمأ الحنين في قلبها ، دام الهجر طويلاً و تلك الأم تنتظر حدوث معجزةٍ تجدد لها الحياة و تبعث الأمل في النفس المتعبة ، يرن جرس الهاتف محدثاً ضجةً مفزعة في فراغ الهدوء المعاش ، يثير رعباً في داخل تلك الأم يكسر رتابة اللحظات التي تعيشها ، تتوقف لبرهة دون حراك و تعود لتنصت لتتأكد أن هذا الصوت حقيقي و ليس نسج خيالها ، فيعود الصوت المهول ليؤجج مشاعرها و يطلق زفرات الشوق و التعب و العتب ، فتأخذ بلهفةٍ سماعة الهاتف و دون أن تعرف من المتصل تبدأ عبارات الغضب الممزوج بكثير من الاشتياق و الحب و الاستياء تنطلق من فمها دون وعي و تجهش بالبكاء المرير و كأنها تنتظر أن تخبر أحد أي أحد بلوعتها و أن تسر بأحزانها حتى و إن لم يكترث ذلك الآخر، لكن يأتي الجواب بارداً و خالياً من أي عاطفة على الخط قائلاً آسف سيدتي يبدو أنني أخطأت بطلب الرقم . هي تغلق الهاتف دون أن تنطق بكلمة و تعود لتجلس على تلك الأريكة و تسرد ذكريات عمرٍ مضى و أملٍ ضاع و تعبٍ مع أولادها ذهب سُدى، آه من أبنائي آه من نفسي من غربتي في بيتي وغربتهم عني ، ليتنا لم نكبر ليتكم لم ترحلوا ليتني لا أنتظر .











