بقلم: علي عبيد
«في هذه اللحظة، أنا ممدد على سرير المرض، وتتراءى لي حياتي كلها أمامي، أدرك أن الشهرة والثروة اللتين أفتخر بأنني حققتهما تبدوان شاحبتين بلا معنى في مواجهة موت وشيك. في الظلام، أنظر إلى الضوء الاخضر في هذه الأجهزة التي تبقيني حيًا، وأصغي إلى همهمتها… الآن أعلم أننا راكمنا ثروة كافية لتعيلنا في حياتنا، لكن كان علينا متابعة أمور أخرى لا علاقة لها بالثروة، أمور أكثر أهمية؛ ربما هي علاقاتنا الانسانية، أو الفن، أو حلم من أحلام الشباب، فملاحقة الثروة بلا توقف تحول الانسان إلى كائن ملتوٍ، مثلي تمامًا».
قائل هذه الكلمات هو واحد من الرجال الذين يدين ملايين البشر لهم بالفضل كلما أمسكوا بأجهزة هواتفهم المتحركة واستخدموها للتحدث إلى أحبائهم وأصدقائهم للاطمئنان عليهم، أو الاتصال بشركاتهم ومكاتبهم لمتابعة أعمالهم، أو أبحروا بواسطتها في عوالم «الإنترنت» التي تتيحها هذه الأجهزة لهم، بعد أن أصبحت أكثر ذكاء من الإنسان الذي اخترعها، وسهلت الحياة لنا، أو جعلتها أكثر تعقيدا كما يرى البعض ممن ينظر إلى الجوانب السلبية منها. إنه «ستيف جوبز» مؤسس شركة «أبل» التي بناها من الصفر، وانطلق بها لتصبح بعد سنوات عملاقا اقتصاديا ينافس كبريات الشركات العالمية، وتغدو لاعبا أساسيا في ميدان تطوير أجهزة الحاسوب والهواتف النقالة، ووضعها في متناول الجميع لتسهيل حياة البشر وتواصلهم بيسر وسهولة، حتى وصل حجمها المالي إلى مئات المليارات من الدولارات، وأصبح هو واحدًا من قلة في هذا العالم تهز التقانة بيمينها وتهز العالم بيسارها.
قال هذه الكلمات وهو على سرير المرض، قبل أيام من وفاته في شهر أكتوبر من عام 2011 عن 56 عاما، قدم خلالها دروسا في النجاح والفشل، بدأت بتحقيقه حلمه الصغير، عندما عمل مع صديقه «فوزنياك» على حاسوبهما في مرآب للسيارات، بعد أن باع الأول سيارته، وباع الثاني آلته الحسابية العلمية، ليتمكنا من تأسيس شركتهما التي شهدت النور عام 1976 وسمياها «أبل» على اسم الفاكهة المفضلة لدى «ستيف جوبز»، وانتهت هذه الدروس بأن أصبح «جوبز» رجل «أبل» الأسطوري ومالك القسم الأكبر من أسهمها، بعد أن غمرت «أبل» العالم بأجهزتها الإلكترونية المتنوعة، وبرمجياتها التي لا يستغني عنها مستخدمو هذه الأجهزة، على تعدد أنواعها.
«وصلت قمة النجاح في عالم الأعمال، وفي عيون الآخرين. حياتي مثال للنجاح، ولكن بغض النظر عن العمل، لم أفرح إلا قليلًا وفي النهاية. الثروة ليست سوى حقيقة من حقائق هذه الحياة التي اعتدتها». هكذا وصف «ستيف جوبز» حالته في الأيام الأخيرة من حياته. وتابع: «وهبنا الخالق حواس كي نشعر بالحب تعمر به القلوب، لا الأوهام التي تقدمها لنا الثروة، فأنا لا أستطيع أن أحمل معي الثروة التي جمعتها في حياتي، ولا يمكنني أن أحمل إلى العالم الآخر إلا ذكريات مفعمة بالحب. وهذا هو الغنى الحقيقي الذي يتبعكم ويرافقكم، ويتيح لكم القوة والنور لتستمروا». ثم ختم قائلا: «مهما كانت المرحلة التي نمر فيها، فبمرور الوقت، سنواجه ذلك اليوم الذي يسدل فيه ستار حياتنا. فأحبوا عائلتكم وزوجاتكم وأصدقاءكم، وتحلوا بحسن المعاملة مع أنفسكم ومع الآخرين».
غارقون نحن في أحلامنا، منغمسون في الحياة، نبحث عن تحقيق طموحاتنا المادية على حساب أشياء أخرى، لا نفوق من غفلتنا إلا بعد أن يكون القطار قد تجاوز كل المحطات التي كان يجب أن نتوقف عند بعضها، ونترجل كي نبقى فيها قليلا، قبل أن نعاود مواصلة الرحلة، حتى تصبح المسافة المتبقية التي يقطعها القطار قبل الوصول إلى المحطة الأخيرة مسافة للتأمل أكثر منها جزءا من رحلة الحياة التي تبدو وقتها قصيرة مهما طالت. لذلك علينا أن نستفيد من تجارب أولئك الذين سبقونا إلى النزول من القطار، وأن نستمع إلى نصائحهم، علينا أن نستمتع بحب المحيطين بنا، لأنه وحده الذي سنأخذه معنا.






























